الدم والسيف

الدم والسيف

قدر ما ارتبطت ذكرى الثامن من تمّوز بالفداء، ارتبطت بفادي وشهيد تمّوز الذي وجد الشهادة شرطًا للحياة إن كانت في سبيل قضيّة تساوي وجود الانسان الفرد، وهي قضية بعث أمّة، والتصدّي للمشروع المعادي والذي أخذ شكله الرسمي العلني في بازل 1897 عند عقد المؤتمر الصهيوني الأوّل، والذي مثّل الخطوة العلنيّة الأولى في مشروع تنفيذ حلم زائف وتحقيق وعد ربّاني مزعوم بإقامة دولة لليهود في بلادنا، وهو ما كان قد تناغم مسبقًا مع المشاريع الاستعماريّة الطامحة أن ترث الدولة العثمانيّة. تلك القوى كانت بحاجة لمثل هذا المشروع التفتيتيّ لإكمال مخطّطها الذي يتطلّب تجزئة أرض الوطن، وتحويله إلى كيانات مصطنعة، وصناعة هويّات كيانيّة ضّيقة خاصّة بكلّ منها ولكلّ منها تتعارض مع الهويّة القوميّة الجامعة. ومن ثمّ تقسيم أبناء الأمّة إلى أن يصبحوا قطعًا متناثرة لا تمثّل أمّة حيّة، وإنّما مجموعات على شكل طوائف دينيّة أو مذهبيّه أو مجموعات عرقيّة. وأخيرًا خلق زعامات متهافتة تعمل على تكريس واقع التجزئة في الأرض والمجتمع لتستطيع القوى المعادية إقامة الدولة اليهوديّة.

نجحت المشاريع الاستعماريّة المعادية في تحقيق التجزئة في اتفاقيّات لم تكن الأمّة طرفًا فيها، من سايكس- بيكو إلى سان ريمو وغيرها، وذلك على الأرض وفي المجتمع، فيما استطاعت الزعامات المتهافتة الصغيرة أن تحدث الفرقة والخلاف لا بين المجموع القوميّ العامّ فقط وإنّما حتّى داخل كيانات الأمّة الخاصّة، وكان هذا ما سهّل على الاستعمار الغربيّ استكمال مشروعه بإقامة الدولة اليهوديّة وزرع الغدّة السرطانية في جسد هذه الأمّة.

لم يكن من ردّ على المشروع المعادي إلّا في عام 1932 عندما طرح شهيد الثامن من تمّوز المشروع السوريّ القوميّ الاجتماعيّ المضادّ للمشروع المعادي، واضعًا الخطّة المعاكسة القادرة على تحقيق الحقّ القوميّ وإثباته. وكان هذا الردّ قد قرع جرس الإنذار لدى العدوّ الخارجيّ والذي أوكل مهمّة التعطيل والتآمر للعدوّ الداخلي من الزعامات الرخيصة التي حاولت تعطيل عوده شهيد الثامن من تمّوز من منفاه، ثمّ إصدار أوامر اعتقال بحقّه فور عودته وبُعَيد إلقائه خطاب العودة إلى أرض الوطن وهو خطاب العودة إلى ساح الجهاد من شرفة منزل نعمة تابت، ثمّ المؤامرة في حادثة الجمّيزة، وانتهت بتحالف الشرّ بين حسن الزعيم ومحسن البرازي في دمشق وبشارة الخوري ورياض الصلح في بيروت ليراق الدم على رمال الشاطئ، ملقيًا الدرس الأخير أو المحاضرة الحادية عشرة إن جاز التعبير، بإثبات أنّ الزعامة هي من تبذل الروح والدم فداء للأمّة وللقضيّة وللمبادئ القائمة على قيم الحرية والواجب والنظام والقوّة، وذلك عندما سار بخطى واثقة وكأنّه قائد لفريق إعدامه من الجنود وصغار الضبّاط الذين تعامل معهم باعتبارهم ضحايا لا قتلة، فكان عطوفًا عليهم وقال لهم “شكرًا شكرًا” مرّتين وقطع ثالثها الرصاص حسب رواية الخوري إيليا برباري ومن حضر ذلك الفجر المشؤوم. وكانت شهادته وروحه ودمه درسًا مختلفًا عن مفهوم الزعامة الذي ساد ولا زال يسود والذي تضحّي به الأمّة وأبناؤها بالروح والدم فداء للزعيم.

يتساءل القوميّ الحائر والمواطن الحزين: أين أصبح المشروع المضادّ اليوم؟ وهو ينظر إلى ما يجري في غزّة وجنوب لبنان حيث تخوض المقاومتان اللبنانيّة والفلسطينيّة حربًا استطاعت من خلالها إثبات تهافت المشروع المعادي وضعفه العضويّ، والذي لم يكن له أن يكون قويًّا لولا ضعفنا وتجزئتنا وابتعادنا عن المشروع الحقيقيّ المضاد لصالح خلافات كان عليها أن تكون ثانويّة.

ألم يكن أجدر بأبناء العقيدة القوميّة الاجتماعية والأمناء على الخطّة المعاكسة أن يقودوا هذه المعركة. هنا يبلغ القوميّ والمواطن ذروة غضبه وهو يرى الحالة التي تمرّ بها المؤسّسة الرائدة التي أوكل لها قيادة المشروع المضادّ ما بين الروشه والبريستول.

أليست المعركة وضراوتها واحتمالات تمدّدها لتشمل مساحات أوسع في الأمّة والإقليم سببًا كافيًا لتجاوز هذه الحالة الشاذّة؟

 هذا ما تقوله ذكرى الثامن من تمّوز.

سعادة ارشيد

جنين- فلسطين المحتلة