لو قيض لاتفاق 17 أيار أن يستمر لكان من شأنه تحويل لبنان إلى محمية “إسرائيلية” لاسيما في حال تطبيق ما جاء في ملحق الترتيبات الأمنية، ولكان لبنان يومها قد احتل المرتبة الثانية في سلم “اتفاقيات السلام” بين الكيان الصهيوني ودولة عربية، وكان سيشكل خروجاً شبه رسمي من الجامعة العربية.
من المفيد بمكان التذكير بالظروف التي أفضت إلى هذا الاتفاق الذي تم إلغاؤه في جلسة لمجلس النواب اللبناني وصدر بالقانون رقم 25/87 تاريخ 15 حزيران 1987. ففي حزيران/يونيو 1982 اجتاح العدو الصهيوني لبنان وتمكن من الوصول إلى العاصمة بيروت واحتلال أجزاء كبيرة منه باستثناء مناطق الشمال والبقاع. وتلا ذلك انسحاب القوات الفلسطينية من لبنان وانتخاب رئيس جمهورية جديد (بشير الجميل ثم شقيقه أمين الجميل) مؤيد لاتفاق سلام مع “إسرائيل” يضمن انسحابها من لبنان، لذا شرع لبنان بمشاركة الولايات المتحدة الأميركية في مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل” للتوصل إلى هذا الاتفاق التي عرف باتفاق 17 أيار 1983 (تاريخ التوقيع على الاتفاق) بعدما سبق ووافق مجلس الوزراء على محتوى الاتفاق في جلسته يوم 14 أيار 1983 وفوض إلى رئيس الوفد اللبناني المفاوض الدكتور أنطوان فتال أن يوقعه في الوقت المناسب، وكذلك استطلاع رأي المجلس النيابي حوله، الذي أجاز للحكومة إبرام الاتفاق في جلسة عقدها يوم 14 حزيران 1983، وقد أيده 65 نائباً وعارضه نائبان (نجاح واكيم وزاهر الخطيب) وامتنع 4 نواب، وتغيب 19 نائب.
توقيع الاتفاق قاد إلى رفض فئات سياسية وطائفية عديدة له وأدى إلى تصاعد القتال. وقد امتنع العدو الصهيوني من جهته عن تنفيذ ما جاء فيه، مما أفشله وأدخل لبنان في دوامة عنف جديدة أدت لاحقاً إلى إلغاء الاتفاق في الجلسة النيابية ذاتها إلى شهدت إلغاء اتفاق القاهرة. وصدر بذلك القانون رقم 25/87 تاريخ 15 حزيران/يونيو 1987.
في أيار 1983 أصدرت الحكومة اللبنانية “كتاباً أبيض” بعنوان “وثائق اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية”، كان ببساطة استسلاماً قانونياً من لبنان ل “إسرائيل” وضمّ لبنان إلى صف حلفاء الكيان الصهيوني حول العالم. وفي مقدمة “الكتاب الأبيض” تحمِّل حكومة لبنان بصورة رسمية منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية كاملة عن مجازر “إسرائيل” في لبنان، إذ تقول المقدمة إن وجود الشعب الفلسطيني “أدّى إلى استدراج “إسرائيل” لنقل الحرب إلى داخل الأراضي اللبنانية”.
كثير من الشكوك فرضت نفسها حول تأليف أعضاء الوفد اللبناني الذي ترأسه السفير (المتقاعد) أنطوان فتال الذي قال في جلسة افتتاح جلسات التفاوض يوم 28 كانون الأول/ديسمبر 1982 “للإسرائيليين” إن لبنان “محب للسلام بطبيعته وتقاليده”. كانت قوات الاحتلال في الوقت عينه تطلق الرصاص عشوائياً على أهل الجنوب وكانت تحرق البساتين كي لا يختبئ فيها مقاومون. واعترف فتّال حينذاك للمرة الأولى منذ 1948 بأن لبنان كان يكذب عندما كان يوقّع على اتفاقيات الدفاع العربي المشترك، إذ يقول بالحرف: “وقد رفض لبنان باستمرار اتخاذ المواقف التي كان يمكن أن تستدرجه إلى نزاعات مسلحة أو تهدد سلامة حدوده”. كما أن الوفد اللبناني لم يصحح لكيمحي رئيس وفد العدو عندما زعم أن الاجتياح “الإسرائيلي” (قبل أشهر فقط من الاحتفال التطبيعي) والذي قتل أكثر من 20 ألف لبناني وفلسطيني وسوري، كان موجهاً فقط ضد “المخرّبين”.
منذ البداية طمح وفد العدو إلى تحقيق مستوى من التطبيع لم يصل إليه أي نظام عربي من قبل. لم تمنع “اتفاقيات السلام” بين “إسرائيل” ومصر والأردن، مثلاً، الإعلام الأردني والمصري من التعبير عن العداء ل “إسرائيل”. إلا أن الوفد “الإسرائيلي” أصرّ منذ أول اجتماع وضع بند “إنهاء الحملات الدعائية” بين البلدين كبند في بنود التفاوض للاتفاق عليه. وهذا ما خلص إليه الاتفاق بعد توقيعه. لا بل أكثر من ذلك نصّب كيمحي نفسه ناطقاً بأسم اللبنانيين حين قال في ختام المفاوضات أمام الإعلام “إن شعب لبنان، الذي أثبت قوة تصميمه من خلال الشخصية المميزة منذ أيام الفينيقيين، يدعم هذا الاتفاق تماماً مثلما يدعمه شعبنا”. ولم يتوان أنطوان فتّال رئيس الوفد اللبناني في مفاوضات 17 أيار عن الرد على كلام كيمحي بالاعتراف أنه “تشرّف بتوقيع هذا الاتفاق”، وقال للحضور إن مجموعة مصالح تربط لبنان بـ”جيرانه”، وأن لبنان لا يطلب “انتصارات في ساحات المعارك”.
من جهته لعب الدكتور ايلي سالم نائب رئيس الحكومة وزير الخارجية في حكومة شفيق الوزان خلال حكم الرئيس أمين الجميل، دوراً في نسج إتفاق 17 أيار. ظل وزيراً للخارجية عامين بين 1982 و1984. وفي حديث إلى صحيفة “نداء الوطن” نُشر في 16 آذار 2024 قال إن إتفاق 17 أيار هو “أكبر إنجاز دبلوماسي حصل في الخلاف العربي “الإسرائيلي”. سميت هذا الإتفاق الإنسحاب “الإسرائيلي” من لبنان. هو اتفاق بين الدولة اللبنانية و”الدولة الإسرائيلة”. وأضاف في حديثه “أن “إسرائيل” ألغته وهي من تراجعت عنه. إتفقنا عليه ووقّع من الجانب “الإسرائيلي”. أنا كنت وزير الخارجية يومها ومسؤول عن كل كلمة فيه”.
الواقع يشير إلى أن إلغاء اتفاق 17 أيار جرى بسبب تصاعد وتيرة استهداف “القوات الإسرائيلية” والأجنبية داخل لبنان، خاصة بعد حادث مقتل عدد كبير من قوات المارينز والمظليين الفرنسيين من جهة، وتحت ضغط الرفض الشعبي في لبنان من جهة أخرى. وسط هذه الأجواء قامت الحكومة اللبنانية ومجلس النواب اللبناني باعتبار هذا الاتفاق باطلًا وقاموا بإلغائه بعد أقل من عام على اعتماده وبالتحديد في 5 آذار 1984.
إيلي سالم في خطابه أمام المجلس النيابي اللبناني نوّه بأن الاتفاق يمنع الاعتداءات من الطرفين، وتجاهل أن جيش العدو كان هو المعتدي الدائم على لبنان من عام 1948 حتى عام 1983. وكرّر سالم كلام المسؤولين الإسرائيليين عن “براءة إسرائيل” وأن جرائمها في لبنان لم تكن إلا بسبب “العمل الفدائي الذي أدى إلى هجمات إسرائيلية عنيفة”، متناسياً أن جرائم القوات الصهيونية في حرب 1948 هي التي تسببت في مأساة الفلسطينيين وتشردهم من جهة، ومطمئناً الكيان الصهيوني بالقول “إن لبنان حريص على سلامة جيرانه” من جهة ثانية.
أُسقط اتفاق 17 أيار، ولم يكن ذلك ممكناً لولا وقوف قادة الحركة الوطنية ضده ولولا وقفة النواب الوطنيين في البرلمان اللبناني الذين عارضوه بشدة، ولولا الضغط الشعبي الهائل الذي عم العديد من المناطق اللبنانية.