هزالة محاكمة سعادة واعدامه

عندما سئلت للمشاركة بهذا العدد من “صباح الخير” التموزي تبادر الى ذهني سؤال واحد: ما الممكن أن يطرح ويحمل جديدا؟

أسعادة في قيادته أم ريادته؟ وسيرته قد ملأت حياتنا قدوة بالقيادة والريادة، وتاريخنا الحزبي حمل إلينا أدقّ تفاصيل تلك القيادة الفذّة والريادة المميزة مما ربعه على علامة فارقة بين القادة وروّاد الفكر والنهضة.

الجديد الذي أراه في بعض تفاصيله غامضا غير مقروء وغير ملحوظ هو استشهاد سعادة والمحاكمة الهزيلة التي اعدت له.

 من خلال بحثي في هذه التجربة تبين لي أنّه لم يكن عند سعادة أيّة نيّة للانقضاض على النظام اللبناني باستخدام القوة.

الدولة اللبنانية هي التي استدرجت سعادة إلى هذا المكمن بعد ان اتّخذت قراراً بالتخلص منه كمدخل للتخلص من حزبة وأفكاره فافتعلت حوادث عدة كان أبرزها حادث الجميزة في التاسع من حزيران 1945 حيث أعلن قرار بملاحقة الزعيم وإعتقاله.

هذا القرار والملاحقات التي رافقته دفعا بسعادة وبعد اشتداد الطوق عليه الى اللجوء الى الشام وإدراكه أن لاحل مع النظام اللبناني إلّا بالثورة عليه والتي وجدها النافذه الوحيدة المتبقية بعد ان وصدت كل الابواب والمنافذ أمامه. تمت الصفقة بين حسني الزعيم وأركان النظام اللبناني برعاية مصرية سعودية وسلم سعادة ليجابه أهزل محاكمة و أقساها ظلما في تاريخ البشرية. 

ومن البديهي وعندما نقول محاكمة أن نرى حاكما ومحكوما، قاضيا ومرافعا، أن نرى شهودا وحضورا وجلسات تلو الجلسات ليتخذ قرار وما شابه.

فما الذي وجدناه في محاكمة سعادة؟

على المستوى التقني وجدنا

أولا: محكمة معينه بقرار مسبق من قبل السلطة المدعية على سعادة وكان يفترض أن تكون المحكمة مرجعية حيادية حسب الاصول والاحكام القضائية المعترف بها. 

ثانيا: لم يسمح لسعادة بممارسة أي حق يجيز به القضاء والاعراف الإنسانية مثل حق الدفاع عن النفس وتوكيل المحامي الذي يريد وحق المرافعة والإستئناف. وفي هذا الإطار يستوقفني مدى التعسف بأن تتخذ المحكمة قرارها بتعيين دركي (الملازم الاول رزق الله) وتكلفة بمهمة المرافعة بالرغم من عدم معرفته بسعادة وقضيته، باعترافه شخصيا.

ثالثا: لم يسمح لسعادة أن يستقدم اي شاهد الى المحكمة من طرفة بالرغم من خطورة الاتهامات الموجهة اليه. 

رابعا: لم يطلع سعادة على بيان اتهامه قبيل محاكمته بهدف عدم السماح له معرفة الأسباب والتهيؤ للدفاع عن نفسه وهذا من ابسط الحقوق التي تعطى للمتهمين.

خامسا: واجهت المحكمة سعادة بأدلة مفبركة ولم تعطه الفرصة ليفند هذه الأدلة بالرغم من حساسية القضية.

سادسا: خلافا لحقه في محاكمة علنية عادلة، اصرت الدولة على اجراء المحاكمة في السر… وهذا عمل مخالف لروحية القانون لأنّ علانية المحاكمات معيار من المعايير الدولية لاستقلال القضاء.

سابعا: اعتمدت السلطة كل الوسائل الضاغطة لإجراء المحكمة وتنفيذ حكمها بأسرع وقت ممكن.

جدول تقريبي لمواقيت مداولات المحكمة

المحكمة تباشر العمل                                  12:00 ظهرا

الإستجواب والمقابلة مع الشهود            من الساعة 1:00 الى 1:30

مطالعة النائب العام                                    من الساعة 1:30 الى 3:30

إستراحة                                                         خمس دقائق

مرافعة الدفاع                                           من الساعة3:35 الى 3:40

مرافعة فكرية لسعادة                                  من الساعة 3:40 الى 5:10

مذاكرة الهيئة                                           من الساعة 5:15 الى 7:30

إصدار الحكم                                            الساعة 7:35 دقيقة

تبليغ سعادة بالحكم                                                  الساعة 8:30

رفع الملف الى لجنه العفو                                        من الساعة 9 الى 10:30

مصادقة رئيس الجمهورية                                           الساعة 11:30

احضار الكاهن                                        الساعة 12:30

الإعدام                                                   الساعة 3:30 صباحاً

أما على المستوى المنهجي فنجد التالي:

أولا: أن الدولة اللبنانية قد رتبت الملفات بشكل مطبق على سعادة لكي يأتي حكما واحدا هو الإعدام أما الخطوات التي اتبعتهاللوصول الى غايتها فهي:

أولا– اعتبرت السلطة قضية سعادة جرما جزائيا وليس جرما سياسيا علما أنّ قضية سعادة هي قضية سياسية بإمتياز من حيث النيات والافعال والاهداف. فما هو سياسي اكثر من إعلان ثورة لتغيير النظام. حتى مجريات المحكمة وبنود الإتهامات والمرافعات كانت كلها سياسية.

ثانيا: وضعت السلطة قضية سعادة في خانة الجرم الجزائي وجرّدتها من صفتها ومضامينها السياسية لكي يتسنى لها إحالته للمحكمة العسكرية لأنّ القانون اللبناني لايجيز للسلطة  إحالة القضايا السياسية الى القضاء العسكري.

ثالثا: أصرّت السلطة على إجراء المحاكمة العسكرية وليس سواها لانه وفقط في المحاكم العسكرية يؤخد قرار الاعدام.

رابعاً: أصرّت الدولة على تجريم سعادة جزائيا لتتمكن من إستصدار حكم إعدام لأن القانون اللبناني لايجيز للمحكمة العسكرية إستصدار هكذا حكم إلا إذا كان الجرم جزائيا.

خامسا: أصرّت السلطة على محاكمة سعاده تحت قانون الطوارىء الذي أعلن خصّيصاً لحرب فلسطين ولا يهدف الّا الى ما يتعلق بهذه الحرب. وذلك لكي تضمن إحالة القضية الى المحكمة العسكرية.

فتكون النتيجة على الشكل التالي:

الهدف = اعدام

 

السرية                                 السرعة

 

لكي تتحقق

تجريم سعادة جزائياً                           المحكمة العسكرية

(ولكن الجريمة الجزائية من اختصاص) 

                                            المحكمة الجزائية                 

قانون الطوارىء

كل الدلائل الآنفة الذكر تؤكد إصرار السلطة المسبق للتخلص من سعادة. وكان مقررا ان يقتل على الطريق بين الشام ولبنان، ولكن المحاولة فشلت لأسباب تقنية. وهناك أكثر من شاهد منهم الامير فريد شهاب – مدير الامن العام.

اضافة الى ما وجدناه من دلائل في الفترة ما بين صدور الحكم وتنفيذه. منها إحالة الحكم على لجنه العفو التي لم يعط لها وقتا لدراسته اضافة لعدم اكمال نصابها، وهذا ايضا مخالف للقانون. وبحسب جريدة النهار، صادقت اللجنة على الحكم بالأكثرية لا بالاجماع مما يعني أنّ قرار الاعدام قانونيا باطل.

ولم يسمح لحامل قرار المحكمة (الملازم الاول رزق الله)، الذي قصد القصر الجمهوري من أجل طلب الإعفاء، من مناقشة رئيس الجمهورية بالعفو، حسب مقتضيات القانون اللبناني، بل أبلغ من قبل الرئيس، وفورا، أنّ الموافقة قد تمّت على الحكم.

***

هناك دلائل كثيرة في التاريخ تدل على أنّ هذا النمط من المحاكمات او الإغتيالات لاتنفذ إلا على عظماء في الفكر والعقيدة والسياسة، وأن السلطة لا تلجأ الى مثل هذا النمط إلا في حالات نادرة جدا، إما تكون في غباء تام، أو جهل، أو تآمر، وفي مطلق الأحوال هي سلطة جائرة لاتأخذ بعين الإعتبار لا القوانين ولا الحقوق المدنية. والمضحك المبكي أنّ السلطة اللبنانية التي أعدمت سعادة إعتمدت هذا النمط الإستبدادي في ظل النظام الديمقراطي البرلماني القائم.

ومن خلال بحثي في التاريخ تبين لي أنّ حادثا بارزا قارب حدث اغتيال سعادة من حيث الأسلوب والتنفيذ هو حادث  Louis Antoine de Bourbon الذي حكم وأعدم على يد نابليون في القرن التاسع عشر بالفظاعة عينها التي اتبعت مع سعادة باستثناء أنّ محاكمته تمت على أرض المعركة ودامت ثلاثة أيام، فكيف بمحكمة سعادة التي استمرت عشر ساعات!

العظماء التاريخيون الذين تعرضوا للإعدام أو النفي معروفون أمثال أرسطو وغاليليو وجان دارك. وبالرغم أن بعضهم تم محاكمته في القرون الوسطى الاستبدادية أو ما يعرف بعصر الظلمات، لم نجد أنّ أحدهم ضاهى سعادة بما نفذ بحقة بالسرعة والأسلوب والسرية.

***

لقد نفذ إغتيال سعادة بجريمة لم يشهدها تاريخنا المعاصر. وهذه الجريمة وإن أكّدت على عظمة القائد الريادي الذي يتحمل تبعات أفكاره بوقفة عز قلّ نظيرها، أكّدت:

أولا: على الاجحاف الذي لحق بسعادة والذي يستوجب المطالبة الحثيثة بإعادة المحاكمة وإعطائه الاعتبار والحقوق وإدانة القتلة.

وثانيا: على الخطورة الكامنة بنظام يرتكز على القواعد الفردية والمصالح الطائفية والاقطاعية المنسحبة على حرمة القضاء والتي تهدّد امكانية نشوء دولة المواطنة ونهوض القضاء العادل.

والى أن ياتي اليوم الذي تصدر فيه الحكومة اللبنانية قرار إعادة الاعتبار المعنوية لسعادة وتعتذر عن كل الأخطاء السياسية والقضائية التي وقعت عليه في المحاكمة التي بدأت وإنتهت ونفذ حكمها في أقل من عشر ساعات في تموز 1949.

إن الذين ساهموا في إعدام انطون سعادة يتمنون اليوم وبعد هذا السيل من كشف الحقائق لو هم كانوا المعدومين مكانه أو أبطالا مثله او راسخين في الوطنية مثله ليقال فيهم ما يقول الكبار فيه.