معاناة سعادة بين العودة والاستشهاد

عاد أنطون سعادة إلى وطنه من مغتربه القسري في الثاني من آذار 1947 عبر مطار القاهرة، وفي مطار بيروت استقبلته وفود حزبية وشعبية من مختلف مناطق الكيانات السورية وقد سجل القومي الاجتماعي عبد الله الجميّل مشاهد من هذا اليوم التاريخي وفقرات من خطاب سعادة على شريط “فيديو”. فور انتهاء سعاده من خطابه، استدعي إلى الأمن العام اللبناني “لشرح أقواله”، ولمّا لم يمتثل، أصدرت السلطات مذكرتي توقيف بحقه، فغادر بيروت إلى الجبل حيث تابع نشاطه بحرّية. ويروي المحامي النائب أوغست باخوس أن الوفود كانت تتقاطر إليه من كل أصقاع البلاد العربية المجاورة حتى سحبت الحكومة مذكرتي التوقيف بعد بضعة أشهر، لكنها أصدرت مرسومًا بتعطيل جريدة “صدى النهضة” الناطقة باسم الحزب إلى أجل غير مسمى.

استمرت معاناة سعادة بعد تداعيات خطاب العودة، إذ كان عليه أن ينهي حالة الانحراف في الحزب، ويقوم بجولات تفقّدية على المناطق، ويتصدّى لتزوير الانتخابات النيابية في لبنان، ويواجه قرار تقسيم فلسطين، ويعيد إحياء “الندوة الثقافية”، ويتصدى لإعلان قيام “دولة إسرائيل”، ويكشف خفايا “اتفاقية التابلاين”.. فكتب مقالة في “الجيل الجديد” بتاريخ 19 مايو 1949، بعنوان “النفط سلاح انترنسيوني لم يستعمل”، نبّه فيها إلى خطورة التصديق على الاتفاقية، ورأى أنّه كان بإمكان “المفاوض السوري” أن يتحكم بمصير مفاوضات الهدنة “السورية – اليهودية” لصالح القضية القومية. كان موقفه من اتفاقية التابلاين، التي وقعتها واشنطن مع بيروت ودمشق والرياض، سببًا للتعجيل في اغتياله، فقد كان محامي الشركة وزير خارجية لبنان حبيب أبو شهلا من أشدّ المتشددين والمتسرعين في الدعوة لتصديق “حكم الإعدام” على سعادة.

أمّا في انتخابات 1947، فقد لجأت الحكومة إلى التزوير والإرهاب لإسقاط مرشحي الحزب، مما دفع سعادة إلى إذاعة أربعة بيانات شرح فيها حقيقة ما جرى. وعملية التزوير أجمع عليها الحلفاء والمعارضون، فأقدمت الحكومة على ارتكاب مجزرة الصحافة بتعطيل عشر صحف وسجن عدد من أصحابها، واضطر الآخرون إلى عقد اجتماعاتهم سرًّا. ونشرت جريدة الصيّاد في عددها 12 يونيو 1947 عريضة وقّعها أصحاب الصحف الرئيسية متهمين الحكومة بتزوير الانتخابات ومعلنين قرارهم الامتناع عن نشر أي كلمة عن جلسات هذا المجلس المزوّر.

واجه سعادة أيضًا صعوبات داخلية في الحزب بعد عودته، إذ كان عليه مواجهة الانحراف العقائدي والنظامي داخل القيادة الحزبية. لذا أعاد إحياء “الندوة الثقافية”، وثبّتها بقانون خاص، وألقى فيها عشر محاضرات بين يناير 1947 وأبريل 1948، شرح خلالها المبادئ الأساسية والإصلاحية وغاية الحزب، وحضرها المئات من القوميين والمواطنين، ممّا أدّى إلى تطهير الحزب من الانحراف الذي نخره ونحره وانزلق به نحو اللبننة، فإعادة تنظيم صفوفه؛ فانتعشت حركة الإنتاج الفكري والفني. بعدها أولى الشأن التربوي اهتمامًا خاصًّا فافتتح “مؤتمر المدرسين القوميين الاجتماعيين” في 17 يوليو 1948، وألقى فيه محاضرة توجيهية ركّز فيها على دور المعلم في تنشئة الأجيال الجديدة بمناقبيّة القيم والأخلاق القومية الاجتماعية، مؤكدًا أنّ صلب المعركة هو في تثقيف نفسية الأحداث ومعارفهم في البيت والمدرسة الابتدائية والثانوية.

 بعد ذلك انطلق سعادة بجولات على الفروع الحزبية فزار الوحدات الحزبية في البقاع ودمشق وطرطوس وحمص وحلب واللاذقية وغيرها، حيث التقى بأعضاء الحزب وأعطى توجيهاته، خصوصا ما تعلّق بالمسألة الفلسطينية. وشملت جولته أيضا، كفرحاتا، الكورة، عين زحلتا، وبسكنتا وكفرعقاب، بحمدون وجزين، جل الديب والمروج، وشارك في النشاطات الفكرية في المخيم التدريبي الثقافي الخامس في ضهور الشوير في صيف 1948.

أسّس سعادة، في مطلع نيسان 1948 مطبوعة “الجيل الجديد” التي صدر منها 51 عددًا، واحتجبت قسريًا لمدة سنة. وفي مطابع “الجيل الجديد” في الجميزة، كتب سعاده آخر مقال له بعنوان “هشيم الطائفية يلتهب في الجميزة”، نشر في العدد الأخير من هذه المطبوعة، الصادر صبيحة السبت 11حزيران 1949، الذي صادره الأمن العام بحجّة مخالفته لقانون المطبوعات وتوقّفت الصحيفة نهائيًا بعد حادثة الجميزة واحراق المطبعة من قبل مجموعة من “الكتائب اللبنانية”. كما أشرف سعادة على إصدار عدد من النشرات الداخلية: النشرة الداخلية، النشرة الرسمية للحركة السورية القومية الاجتماعية، مجموعة الاعمال الرسمية للحركة السورية القومية الاجتماعية، سلسلة النظام الجديد.

وردًّا على قرار تقسيم فلسطين أعلن سعادة أنّ القوميين الاجتماعيين في حالة حرب من أجل فلسطين، واعتبر إعلان قيام “دولة إسرائيل” في 15 مايو 1948 تعدّيًا عنصريًا خطيرًا على وجود الأمة السورية. وأعلن في خطابه الأخير قبل اغتياله بأسابيع، أنّ جميع مقررات الأمم المتحدة المتعلقة بالأمة السورية باطلة، وردا على كلّ ذلك أطلق الحزب “منظمة الزوبعة الحمراء” كذراع عسكري مقاوم لقتال “إسرائيل”؛ فشنّت المنظمة العديد من العمليات والهجمات على العصابات الصهيونية، وبرز من بين مجاهديها فواز خفاجة، الذي استشهد في إحدى معاركها .

 إزاء كلّ ما تقدّم وجد سعادة أنّ الخطر المداهم على الأمة والحزب هو خطر حقيقي بين الحياة والموت، فاختار طريق الصراع والمواجهة فأعلن الثورة ضد هذا التنين المتعدّد الروؤس المتمثل : بـقرارات الأمم المتحدة اللاحقوقية الظالمة والجائرة، وهجمة العصابات اليهودية – الصهيونية وأعمالها الاجرامية في فلسطين، وتآمر الأنظمة العربية على هذا الجزء الجنوبي من الأمة، واضطهاد الحزب المبرمج بدءًا من عرقلة عودته إلى الوطن، الى ملاحقته لاعتقاله فور وصوله الى المطار، إلى تزوير الانتخابات لمنع وصول مرشحيه إلى المجلس النيابي، إلى القمع البوليسي لمنع  مظاهراته لتأييد “المسألة الفلسطينية”، وتفشيل احتفالاته بمناسبة أعياده القومية، ومنع اجتماعاته العامة، وتعطيل جريدته “الجيل الجديد” وقمع وإرهاب الحريات العامة بارتكاب مجزرة الصحافة التي تصدت لفساد السلطة وتزوير الانتخابات ، إضافة الى التنكيل بالقوميين الاجتماعيين واضطهادهم واعتقالهم وطردهم من وظائفهم، على أثر الهجوم البربري، الذي قامت به “الكتائب اللبناية”، وأعوان السلطة  في 9 حزيران 1949 على مطابع الجريدة وحرقها في محاولة فاشلة لاغتيال سعادة في هذا الاعتداء الآثم.

لقد رأى سعادة في كلّ ذلك أنّ شرف الأمة وكرامتها قد أهينا، فأعلن خيانة الحكومة اللبنانية لحرية الشعب والعبث بحقوقه، فدعا الشعب إلى الثورة على الطغيان والخيانة، وأصدر “بلاغ قيادة الثورة القومية الاجتماعية العليا الأولى، عن الثورة وأساليبها وأهدافها”.

   فشلت الثورة، ولعبت الخيانة المكشوفة دورها، بين النظامين “السوري” واللبناني وعصاباتهما الداخلية، وبالتنسيق مع اجهزة المخابرات في بعض الدول العربية، والغربية واليهود، اعتقل سعاده، و”أعدم” اغتيالا بعد محاكمة سرية صورية وسريعة لم يتخطَ مداها من ساعات المساء حتى طلوع فجر الثامن من تموز. لقد كان الحكم فيها قد صدر سلفًا، وتلك طبائع الاستبداد والظلم والجريمة المنظمة!             

    أظهر سعادة في المحاكمة وعلى خشبة الاغتيال ليل الثامن من تموز شجاعة وبطولة نادرتين عزّ نظيرهما؛ محاكمة واعدام لم يشهد تاريخ الاجرام في العالم مثيلًا لهما منذ أيام محاكمة سقراط والمسيح، والمفارقة أنّ الثلاثة “قتلوا” بتهمة الالحاد، والغريب خلافًا لكلّ أنظمة البشرية لم تسمح “العدالة” لـ سعاده رؤية زوجته وبناته قبل اغتياله “باسم الشعب اللبناني” . ختم سعاده حياته بكلمة شكرًا انتصارًا مدويًا على جلاديه وبوقفة عزّ قدوة للأجيال، كما وفى بوعده أن يكون هو حاميًا للحزب بنفسه، لا أن يكون الحزب حاميا له. نعم هذه هي البطولة الهادئة الحكيمة التي تظهر لنا نفسًا عظيمة جبارة، هذه هي الفلسفة التموزية التي رسخت فينا ايمانًا لا يقهر، بأنّ كلّ ما فينا هو من الأمة، وكلّ ما فينا هو للأمة حتى الدماء التي تجري في عروقنا هي ملك الأمة فينا متى طلبتها وجدتها.