أما وقد حصلت الانتخابات البلدية اللبنانية خلال شهر أيّار الجاري، ماذا عن المشهد …وعن التغطية الإعلامية …. وعن الانطباع العام؟؟ وماذا عن المستقبل والتحديات أمام الطامحين إلى التغيير؟؟؟
لا بدّ أنّ الذين أتاح لهم الوقت متابعة الانتخابات البلدية في لبنان خلال الشهر الحالي، أتيح
لهم التوقّف أمام هذا المشهد الذي يتكرّر منذ الأربعينات، وهو التاريخ المدوّن لاستقلال لبنان عن « الأُمّ الحنون» فرنسا، التي أشرفت على حضانته ورعايته بعد «اتفاقية سايكس/ بيكو» للعام 1916.
وقد وصف يومها أنطون سعادة مؤسّس الحركة السورية القومية الاجتماعية هذا الاستقلال بأنّه «خروج من قواويش السجن الضيّقة إلى باحة السجن الكبير ».
ولعلّ لذلك التعبير دلالاته التي لا زلنا نعيش نتائجها وندفع ثمنها حتى الساعة.
ذلك أنّ الخروج إلى باحة السجن الكبير يحملُ في طيّاتهِ مخلّفات الحقبة الانتدابية وما سبقها خلال الحكم العثماني الذي افترش المنطقة على مدى القرون الأربعة بين العام 1516 حتى اتفاقية سايكس/ بيكو خلال الحرب العالمية الأولى.
هذه المخلّفات التي لا زالت معالمها ترتسم أمامنا حقائق ووقائع منذ إعدام أنطون سعادة في فجر الثامن من تموز عام 1949، لأنّه وبكل شجاعة رفض أن يرث تعاليم المدرسة الانتدابية بكافة أشكالها ومضامينها، رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية، مؤكّداً على الهويّة الوطنية والقومية للبنان الواحد الموحّد.
غير أنّ غلبة المؤسسة الطائفية واستشراسها في الدفاع عن مصالحها الضيّقة على حساب المصلحة الوطنية العليا، دفع البلاد إلى انقسامات وحروب أهليّة دامية في العام 1958 مروراً بالحرب الأهليّة التي بدأت رحاها في العام 1975، والتي لا تزال شظاياها وندوبها ونتائجها تحفر عميقاً في الأوضاع اللبنانية حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
ولكن ما علاقة كل ذلك بالمشهد الانتخابي الأخير للمجالس البلدية؟؟؟
هناك دون أدنى شك علاقة وثيقة بين بدايات تكوّن هذا الجنين الذي اسمه لبنان، ومراحل تطوّره، حاملاً معه بذور انقساماته وخلافاته وصراعاته التي لم تفارقه حتى الساعة، والتي تشكّل – إذا ما استمرّت – خميرةً لصراعات مستقبلية تحمل في رحمها عناصر التفتيت ومخاطر المراوحة والتراجع كي لا نقول أكثر من ذلك.
وهذه العلاقة الوثيقة تتبدّى في أحلى مناظرها خلال عملية التغطية الإعلامية التي واكبت العمليات الانتخابية في كافة المناطق اللبنانية، وفي استخدام « معجم انتخابي لبناني» مُفعم باللغة الطائفية والمذهبية، وعلى الشكل التالي:
المناطق اللبنانية تتحوَّل فيها الجغرافية إلى مناطق طائفية حيناً ومذهبية أحياناً. طرابلس السنية، الجنوب الشيعي، الجبل الدرزي، إلخ …….
الأسماء تختفي ليحلّ مكانها: المرشّح الماروني، المرشّح السني، المرشّح الشيعي إلخ ……
– اللائحة الفلانيّة …. وفيها ثلاث مقاعد للشيعة، مقعدين للسُنَّة ومقعد للموارنة.
-أقلام الاقتراع وفيها قلم الموارنة وقلم الدروز وقلم الروم الأرثوذكس.
– ممثّلون لا يمثِّلون القرى بكافة مكوّناتِها، بل هم يمثِّلون طوائفهم ومذاهبهم والتيارات السياسية التي تنضوي تحت أعلام طوائفها ومذاهبها ومناطقها الجغرافية.
هذا المشهد الانتخابي يعود بلبنان إلى بداياته الجنينية ويعمّق المشاعر الطائفية والمذهبية على حساب المصلحة الوطنية. كما انه يعمّق الانتماء الطائفي والهويّة الطائفية على حساب الانتماء الوطني والهويّة القومية ويعمّق الانقسامات على حساب التنوّع في إطار الوحدة وهو يؤسّس لصراعات مستقبلية مُدَمّرة دفع لبنان ثمنها من استقراره وازدهاره ونهوضه من كبواته.
ولعلّ أخطر ما في الأمر، أنّه يخلق حالة من « الوعي المشوّه » للأجيال الحاليّة التي هي بأمسّ الحاجة إلى صياغة جديدة لوعيها خارج القوالب والأطر المتداولة والمتعارف عليها، والتي تساهم في تشكّل واستمرار بنية اجتماعية أسيرة لعوامل الماضي وما حملها من كوارث وويلات أوصلت البلد إلى المأزق المأزوم الذي يعيشه هذه الأيام.
وهكذا تتحوَّل اللغة المعتمدة في الانتخابات البلدية الأخيرة – سهواً أو عمداً- بقصد أو عن غير قصد إلى قاطرة لماضٍ حمل لنا الكثير من الويلات والمصائب والكوارث.
فمتى نستفيق، كي يتحوّل الوطن إلى مكان لكلّ أبنائه، تعلو فيه المصلحة الوطنية والانتماء الوطني على حساب التشظّي الطائفي والمذهبي…. وكي يتحوّل إلى واحة خضراء لكافة أبنائه على مختلف نِحلهم وأنسابهم ومناطقهم وانتماءاتهم، تأسيساً لمستقبل أفضل لأهلنا وشعبنا.