ترامب «القيصر»

تتسارع المستجدات في الإقليم والمنطقة حتى انها تكاد تأتي بعيدة عن التوقعات ها هو ترامب فجأة في المنطقة وبمشهد المتبرم والغاضب من نتنياهو، مقبلاً على الخليج والى قمة يلتقي فيها رؤساء ثلاثة دول هم أصحابه واصدقاءه، هاشاً باشاً ليسمع من على عروش هؤلاء وقصورهم، هذا الكم الهائل من الحب والترحاب والهدايا منها المقيم ومنها الطائر، فيما أطفال غزة وأهلها جياع يفتقدون شربة الماء ورغيف الخبز والأمان من قذائف ترسانة الأميركي ودعمه اللامحدود.

« God save U. S. A. حفظ الله اميركا» نغم تصاعد في قصور تلك العروش، وخيول مطهمة في دولة أخرى، تستقبل امبراطور روما وهو يزور ولاياته فتشبه زيارات الامبراطور يوليوس قيصر كما يصفها التاريخ، وشعاره:

veni’ vidi’ vici  جئت، رأيت وانتصرت. انتصر نعم وهو يحمل لخزائن بلاده المليارات من مال أهل الخليج، يدعمونه باستثمارات معظمها سيضخ في معامل السلاح الأميركية وبالتالي تتحول ذخيرة تقدم هبات لعدو بلادنا، والتساؤل هنا لماذا ضخ المليارات للتسلح بينما يزعم الأميركي انه هو الحامي لهذه الأنظمة؟؟

علما ان هذا السلاح وتعزيز ترسانة أهل الخليج به ليستعمل مرة لمواجهة عدو بلادنا، اكان منذ زمن الاتحاد السوفياتي والشيوعية، التي كانت تصر الولايات المتحدة على زرع الهلع منها لدى هذه الأنظمة، أو في الزمن الحالي حيث تصر واشنطن على اعتبار إيران هو العدو بينما تل ابيب تقضم المنطقة مرة بالحرب وأخرى باتفاقيات الاستسلام، وها هي الاتفاقيات الابراهيمية المقترحة اميركياً اليوم، واحدة من أساليب الهيمنة على المنطقة اقتصادياً واستراتيجياً.

تصر الرياض عبر تسلسل ملوكها وامراؤها على تأكيد صداقتها مع الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من ثمانين عاماً، لكنها على حد قول الملك فيصل بن عبد العزيز، عندما عاتب نيكسون على طبيعة علاقة واشنطن مع الدول العربية، «يعطي العرب التنازلات الكثيرة دون ان يأخذوا شيئاً بالمقابل.»

كان هذا الكلام في مطلع السبعينات، ولكن ماذا بعدما تم ترقية دور إسرائيل من شرطي المنطقة وصولاً إلى تحقيق رغباتها التاريخية والذي تريد من خلاله إعادة رسم خريطة المنطقة … وما يجري اليوم على الأرض، من إعادة رسم للخرائط يقدم جواباً واضحاً، الهيمنة على جنوب سوريا واحتلالها قمم جبل الشيخ حيث باتت دمشق على بعد خطوات معدودة، والسعي قائم للسيطرة على «ممر داوود» باتجاه العراق.

ثم ماذا عن مشروع «الريفييرا» في غزة، وهل يستطيع ترامب وقف حرب الإبادة على غزة؟ سبق للرئيس جونسون أن قال بعد حرب 1967 لولي العهد السعودي خالد بن عبد العزيز «أن الحكومة الأميركية تعجز عن فرض إرادتها على إسرائيل». ما أهم رئيس خارجية أميركي، هنري كيسنجر فقال خلال التفاوض إثر حرب تشرين، على تراجع دولة العدو إلى حدود عام 67 بموجب القرار 242: ان «إسرائيل» لم تنسحب في تاريخها ولأنها دائما تتقدم وان أي انسحاب من جانبها سيكون عملية صعبة جدا.. «والحجة طبعا ان هناك ضغوطا من المنظمات الصهيونية.

ان الإدارة الأميركية اكدت مراراً تضامنها مع نتنياهو في حربه، بعد عملية طوفان الأقصى وتبنت كلام حكومة العدو حرب بالدفاع عن النفس والسردية واكاذيبها، مستظلة الاعلام «السوروسي»، ومقدمة كل امكانياتها وخبراتها العسكرية واللوجستية والاستخباراتية لخدمة تل ابيب.

هل يمكن تفسير انعطافه ترامب عن مراعاة نتنياهو في هذه الزيارة، وما يتردد عن توتر في العلاقة بينهما، خلافاً عميقاً؟ الأرجح انه مجرد اختلاف بوجهات النظر حول طبيعة التعاطي مع أصدقاء واشنطن في المنطقة وحول شكل التفاوض بما يخص «الرهائن» وبعضهم مزدوج الجنسية، عدا التدخل الإسرائيلي الفاضح بمستشاري ترامب، وهذا أمر تحدث عنه كثر. عدا اقتناع واشنطن بالمعلومات الواردة في «هآرتس»، عن إنهاك جيش الاحتلال في حربه المستمرة على غزة، وجنوب لبنان والتي ستصل إلى الخمسمائة يوم، وبعد المعارك الالتحامية الأخيرة ذات الطبيعة صفر، وأدت إلى قتل العديد من افراد جيش العدو وضباطه، مما قد يستدعي تدخلاً اميركياً مباشراً، منعاً لهزيمة «إسرائيل». بالطبع هذا أمر لا يريده ترامب، وقد رفع أمام ناخبيه شعار وقف الحروب، فكيف سيفسر عندها سقوط ضحايا اميركيين في حرب غزة؟

لاشك أن زيارة ترامب للمنطقة، وإن كانت تل ابيب غير متحمسة لتوقيتها ، فهي لن تخرج واشنطن من موقعها  الحريص على ربيبتها «إسرائيل»، وما الاتفاقيات الابراهيمية التي يرعى ابرامها ترامب  مع دول المنطقة وخاصة دول الطوق ، وسوريا تحديداً، ولاسيما  أنها كانت شرطاً أولياً لقرار رفع العقوبات عنها  إلا دليل على ذلك، والتسليم الكلي للاستراتيجية الصهيواميركية المعدة للمنطقة، رغم مزاعم واشنطن انها ترضي ولي العهد السعودي بهذا القرار، وهي في المقابل تقدم لنتنياهو جارة منزوعة الاظافر، مستسلمة راضية، ويكون قيصر العصر قد حلّ برحمته على هذا الشعب المحاصر منذ سنوات، لا قدرة له على استغلال ثرواته، بعد الهيمنة الأميركية القائمة على شمال وشرقي سوريا حيث خزانها الغذائي، وارض النفط والغاز.

هذه الاستراتيجية التي تدعم مقولة تعزيز خيار اتفاقيات الاستسلام الابراهيمي، ليست بعيدة كلياً عن مزاج دولة كيان العدو، لكن ترامب يستعجل حصد النتائج، بعد مئة يوم من عهده واقتصر دوره فيها على الكلام والمواقف، وبينما هم نتنياهو البقاء في موقعه، بعد ارتفاع منسوب الاعتراض الداخلي عليه واتهامات الفساد حوله والتباطؤ بحل ملف تحرير الرهائن … الخ

الجديد بالذكر ان الدعم العربي اللامحدود الذي يقدم اليوم لترامب، الشريك الدائم للعدو الإسرائيلي، يصادف توقيته مع اتفاقية 17 أيار التي حاولت «إسرائيل» ابرامها مع لبنان عام 1983، أثر غزوها عام 82 زمن رئيس جمهورية لبنان امين الجميل، في سعي منها لتوريط لبنان باتفاقية استسلام مع العدو والغيت قبل ان تقرّ، لا تختلف نصوصها كثيراً عن الاتفاقيات الابراهيمية وترتيباتها الأمنية، وأيضاً ما تتضمنه من تطبيع إعلامي وثقافي من خلال منع أي دعاية معادية لدولة العدو.

لقد اسقطت هذه الاتفاقية بجهود المقاومة الوطنية والرفض الشعبي الذي واجهها. اليوم أيضاً، اذ تتصاعد أجواء الاستسلام بقصد التطبيع مع هذا العدو. لا خيار امام شعبنا إلا المزيد من الوعي للمخاطر وتأطير قوى المواجهة في المنطقة فيحضرنا قول معلمنا «ان ازمنة مليئة بالصعاب تمر على الأمم الحية فلا يكون منها خلاص إلا بالبطولة المؤمنة المؤبدة بصحة العقيدة».