في الحياة، حياتنا هذه على الأرض، تستوقفنا محطات كثيرة ومشاهدات عديدة تحفر في الذاكرة ولا تبارحها أبدا مهما حاولنا أن نقتلعها كمن يقوم باقتلاع الحجارة من تربة أرض البستان بالشوكة والمعول بغية زرعه!
من سنوات بعيدة، في يوم شتوي من أيام كانون الثاني، كنت استقل الباص في ضواحي بيروت وكانت الحفر العميقة تغنينا عن رحلات إلى مدينة الملاهي، فكان الباص يرقص بنا نحن الركاب (طالع؛ نازل) وكان بين الركاب رجل عجوز، يجلس في مقدمة الباص، خطر له أن يتناول حبة (بنادول) وهو على ما يبدو مصاب بصداع. وبينما كان يضغط على غلاف الحبة البلاستيكي ليستخرجها منه، قفز بنا الباص قفزة مفاجئة وأخذ (ينطنط) على الطريق، فطارت الحبة من بين أصابع العجوز المرتجفة وسقطت أرضا وتدحرجت فالتقطتها سيدة سبعينية كئيبة، رثة الثياب تبدو وكأنها تحمل هموم الدنيا على منكبيها، فقيرة فقراً مدقعاً، كانت تراقب العجوز وهو يعالج غلاف الحبة البلاستيكي، وسرعان ما لفت حبة (البندول) بمحرمة ورقية وأخفتها في «عبها»، وكأنها عثرت على كنز أو ليرة ذهب.
هكذا مشاهد في حياتنا اليومية تؤلمنا كثيرا ولعدة أسباب أهمها:
أولا – فداحة الفقر في مجتمعاتنا وقلة حيلة الإنسان الفقير المعذب المنهك.
ثانيا – عجزنا عن القيام بتدابير وخطط لمحو هذا الفقر والذي أدعوه عارا علينا نحن كلنا، وأقصد كلنا بدون استثناء!
ثالثا –عندما نقرأ عن صفقات السلاح بالمليارات والاستثمارات العربية بالتريليونات في أميركا (الترامبية) أقول في سريرتي أليس هنالك من حفنة دنانير للفقراء في بلاد العرب، وحفنة أرز ولحم وكم حبة فاكهة لأطفال غزة الجياع!!؟ …
لا تقلقوا فغدا ستشبعون يا أولادي عندما ستتلألأ أنوار أبراج ترامب في الشام وفي كل العواصم العربية، كما حين ستزهر ملايين الاقحوانات في حقول القدس وتلال الجليل وأعالي جبال الكرمل والشيخ وقاسيون وعلى ضفاف بردى والفرات و دجلة، وسهل سنجار …تحية تعظيم للتاريخ والمجد الأثيل…
وتعود أغنية مارسيل خليفة للشاعر محمد الفيتوري لتضج في رأسي احتفالية رائعة للحياة والموت والإنسان في كل زمان:
عودوا أنى كنتم غرباء كما أنتم
فقراء كما أنتم
يا أحبائي الموتى عودوا
حتى لو كنتم قد متم …..
أنطوان يزبك