الأسباب الموجبة لتعديل الدستور ووجهة هذا التعديل – الحلقة الحادية عشر (الأخيرة)

الفرق بين النظام الفردي والنظام الرئاسي والنظام المجلسي

من يجب أن ينتخِب رئيس الحزب؟

لقد قلنا في الحلقات السابقة أن انتخاب السلطة التشريعية، أي المجلس الأعلى، يجب أن يتولّاه أعضاء الحزب العاملين جميعهم عملاً بالديمقراطية القومية التي تعني أن الشعب هو مصدر السلطة التشريعية. لكن مَن سيتولّى انتخاب رئيس الحزب؟

لقد درجت العادة في الحزب أن يقوم المجلس الأعلى بانتخاب رئيس الحزب. هذا كان استناداً الى المادة الحادية عشرة من دستور سعاده التي تنصّ على أن يجتمع المجلس الأعلى بناء على دعوة من رئيسه في مدة خمسة عشر يوماً من تاريخ حيلولة أي مانع طبيعي دائم دون ممارسة الزعيم سلطاته لانتخاب خلف له.

لكن المادة الحادية عشرة تلك كان واضحاً أنها مادة انتقالية وُجِدت لتعالج ما يحدث مرة واحدة في التاريخ فقط وهو “حيلولة مانع طبيعي دائم دون ممارسة الزعيم سلطاته”. المادة الحادية عشرة إذاً لم تكن موجودة لتطبيقها دائماً، أي في كل مرّة نحتاج لانتخاب رئيس للحزب.

عند الضرورة القصوى، وفي الظروف الاستثنائية، يمكن اللجوء الى انتخاب رئيس الحزب من قِبل المجلس الأعلى حيث يكون متعذّراً إجراء انتخابات عامة في المديريات. وحيث يكون متعذراً اجتماع المجلس الأعلى نفسه يمكن اللجوء الى قانون الطوارئ. وحيث يكون متعذراً تطبيق قانون الطوارئ نفسه لأسباب قاهرة، تماماً كما حدث بعد 8 تموز 1949 حيث كان الأعضاء جميعهم تقريباً في السجن، لم يكن ممكناً إلّا أن يجتمع ما أمكن من الأمناء وينتخبوا مجلساً أعلى لينتخب بدوره رئيساً للحزب. إذاً، في الظروف الاستثنائية فقط يمكن اللجوء الى تدابير استثنائية، أمّا في الظروف العادية فيجب انبثاق السلطة من مصدرها الأصلي، أي من الشعب كله في انتخابات عامة يشترك فيها الجميع، تماماً كما انبثقت سلطة الزعيم من تأييد جميع أعضاء الحزب واحداً واحداً عندما أدوا قسم الانتماء بالتتابع. وإذا كان أعضاء الحزب قد أيدوا سلطة الزعيم بالإجماع، فحري بهم أن يؤيدوا سلطة المجلس الأعلى، أو سلطة رئيس الحزب، بالأكثرية حيث إن الإجماع هنا هو شبه مستحيل.

لذلك، نرى أنه مبدئياً وفي حالة الظروف الطبيعية العادية يجب أن يتم انتخاب رئيس الحزب مباشرة من الأعضاء العاملين جميعهم في مديرياتهم، ويجب أن ينص الدستور على ذلك.

نظامنا هو نظام رئاسي وليس نظاماً مجلسياً.

إذا تمعّنا في المادة الانتقالية الثانية عشرة، نجد أن السلطة التنفيذية تعطى للرئيس وليس لمجلس العمد. تقول المادة:

“يكون للرئيس المنتخب السلطة التنفيذية فقط وتحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى”.

فالسلطة إذاً هي للرئيس وليس للمجلس، وهذا معناه أن نظامنا هو نظام رئاسي وليس نظاماً مجلسياً.

يعزز هذا المعنى أن الزعيم عندما أنشأ “مؤسسة العمد” في المرسوم الدستوري عدد 1 قال إن الزعيم يعيّنهم لمعاونته في إدارة الحزب وفي ممارسة السلطة التنفيذية. فبديهي إذاً بعد غياب الزعيم أن “خليفته” في السلطة التنفيذية هو الذي يعينهم لمعاونته في إدارة الحزب وممارسة السلطة التنفيذية.

والنظام الرئاسي معناه أيضاً أن رئيس السلطة التنفيذية، رئيس الدولة، هو مكلّف من الشعب مباشرة وليس عبر السلطة التشريعية. لذلك يتم انتخاب رئيس الحزب- الدولة من قِبل مجموع أعضاء الحزب مباشرةً وليس بالواسطة عبر المجلس الأعلى.

في الأنظمة الديمقراطية في العالم لا يوجد إجماع على أن تكون السلطة التنفيذية رئاسية أو مجلسية. لكن من الواضح أنه في النظام الرئاسي، حيث الرئيس يُنتخَب مباشرة من الشعب، تكون القيود على سلطة الرئيس أقلّ مما تكون عليه في النظام المجلسي حيث الرئيس يُنتخَب من قِبل السلطة التشريعية.

قد لا يكون الفرق، في الحزب، كبيراً بين النظام الرئاسي والنظام المجلسي، خاصّةً مع مبدأ فصل السلطات وعدم هيمنة سلطة على أخرى، لأن القيود على كل حال هي قيود دستورية، أي ضوابط يفرضها نظام الحزب، وليست قيوداً شخصية. لكن في النظام الرئاسي يكون للرئيس هامش أكبر وحرية أكثر في التخطيط والعمل، وتكون حركته أسرع ومكانته وحصانته أقوى.

لسعاده شرح مستفيض في كتاب “نشوء الأمم” كيف أن المجلس قيّد القائد وعرقل خططه وتسبب في خسارة الحروب الفينيقية الثانية والثالثة ضد روما مما أدّى الى “خراب المدينة وقتل معظم أهلها وجلاء الباقين عنها”، يقول:

مجلس قرطاجة بقي فارقاً في دسائسه ضد القائد ،ذاهلاً عن المرمى البعيد الذي رمى اليه هاني بعل”[1]

ويكمل سعاده شرحه ويقول إن هذا:

“قوّى روح الاستياء في شعب المدينة ونشّط الحزب الديمقراطي ومكّن هاني بعل من تحقيق إصلاحه الديمقراطي بإلغاء إعادة انتخاب أعضاء مجلس ال 104 أكثر من مرة واحدة وتحوير بعض القوانين الإدارية والمالية فكان هذا الإصلاح سابقة للإصلاح الغراقي في روما[2]

والحقيقة هي أن معظم الدول الديمقراطية في العالم تتجه أكثر فأكثر الى إعتماد النظام الرئاسي بدل النظام المجلسي، والسبب في ذلك هو تخفيف القيود المجلسية عن سلطة الرئيس وإعطائه حرية أكبر وحصانة أكثر وفاعلية أقوى.

لذلك نرى وجوب تحقيق “الإصلاح الديمقراطي” وأن يتم انتخاب رئيس الحزب من قِبل أعضاء الحزب جميعهم في الانتخابات العامة التي يتم فيها انتخاب المجلس الأعلى، أي أن يتم انتخاب الرئيس والمجلس في نفس الوقت وتكون ولايتهما متزامنة.

النظام الرئاسي لا يعني أنه نظام فردي.

يعتقد بعض القوميين أن نظامنا هو “نظام فردي” وحجتهم هي أن السلطة التنفيذية “تعطى للرئيس” الفرد وليس لمجلس العمد، فالعمد هم معاونون للرئيس ليس إلّا. هذا على صعيد المركز، أمّا على صعيد الفروع فالقرار هو للمنفذ العام الفرد وليس لهيئة المنفذية، والقرار هو للمدير الفرد وليس لهيئة المديرية. لكننا نلفت الانتباه أن وجود فرد واحد على رأس مؤسسة ما لا يعني أن نظام تلك المؤسسة هو نظام فردي إلّا في غياب مرجعية أو رقابة على ذلك الفرد. المثل على ذلك هو سلطة الزعيم الفردية حيث كان هو وحده مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، أي حيث لم يكن هناك سلطة أو سلطات تراقبه. ففي رسالته الى محاميه الأستاذ حميد فرنجية تاريخ 10 كانون الأول سنة 1935 يقول: “… وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاَ منعاَ للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات والتحزبات والمماحكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب.”[3]

فالنظام الفردي كان ضرورة في مرحلة التأسيس أمّا بعد غياب سلطة الزعامة بالاستشهاد فنظام الحزب يبقى مركزياً متسلسلاً، ولكنه لا يعود فردياً. فالمادة الثانية عشرة من دستور سعاده تنص على توزيع سلطاته الى المجلس الأعلى الذي يتولى السلطة التشريعية، ورئيس الحزب الذي يتولى السلطة التنفيذية، ولا شك أن توزيع السلطات يتنافى مع “النظام الفردي”.

وقد ذكرنا أن سعاده في رسالته الى منفذ عام سان باولو البرازيل بتاريخ 28-8-41 كتب يقول:

“… إن امتياز الحكم الفردي في الدستور هو فقط لصاحب الرسالة ومؤسس القضية وليس نظاماً أساسياً دائماً.  والإتجاه الديمقراطي في نظامه صريح لا يرفضه عقل صحيح”.

إن إعطاء السلطة “للرئيس” وليس لمجلس العمد، وإعطاء القرار للمنفذ العام وليس لهيئة المنفذية، وللمدير وليس لهيئة المديرية، لا يعني نظاماً فردياً، بل يعني نظاماً رئاسياً، لأن الرئيس خاضع لرقابة المجلس الأعلى، والمنفذ لسلطة الرئيس ومجلس العمد، والمدير لسلطة المنفذ العام وعمدة الداخلية.

لا علاقة بين انتخاب السلطة التشريعية وانتخاب السلطة القضائية.

إن انتخاب القضاة أعضاء المحاكم الحزبية يمكن أن يجري بالتزامن مع انتخاب المجلس الأعلى والرئيس، ويمكن أن يجري بشكل مستقل، وهذا يتقرر حسب الحاجة يجب أن يراعي الحاجة لرفد السلطة القضائية بقضاة جدد كلما نقص عددهم لسبب من الأسباب، وانتخاب هؤلاء القضاة الجدد يمكن أن يحدث في أي وقت تدعو الحاجة إليه ولا يجوز تجميد أو تعطيل القضاء والانتظار لحين إنتهاء ولاية الرئاسة وولاية المجلس الأعلى.

أمّا طريقة توزيع القضاة على المحاكم وما هي السلطة التي تتولى ذلك وتقرره، فأمر يعود الى النظام الداخلي للسلطة القضائية، والدستور ومراسيمه لا يجب أن تنصّ عليه.

ملاحظة أخيرة

الزعيم أنشأ مؤسسة المجلس الأعلى بمادة دستورية هي المادة العاشرة، بينما أنشأ مؤسسة مجلس العمد بمرسوم دستوري هو المرسوم عدد 1 وليس بمادة دستورية. لماذا كان ذلك وماذا يعني؟ لماذا لم ينشيء المجلس الأعلى في مرسوم دستوري مثل ما فعل بمجلس العمد؟ فعل ذلك لسبب وجيه هو:

لكي يكون المجلس الأعلى جسراً لاستمرار السلطة وانتقالها بعد الزعيم، أي ليستطيع المجلس الأعلى التشريع بناء على مادة دستورية، فالتشريع لا يُبنى على مراسيم، بل على مواد دستورية (بناءً على المادة كذا وكذا من الدستور)، فكيف يستطيع مجلس أعلى غير موجود في مادة دستورية أن يمارس التشريع!! بناء على أية مادة دستورية؟  لذلك وُجِدت المادة العاشرة، وصار المجلس الأعلى بعد غياب الزعيم يستطيع الاجتماع “بدعوة من رئيسه” حسب ما تنص المادة الحادية عشرة… لينتخب رئيس للحزب. وصار المجلس الأعلى يستطيع تعديل الدستور ويقول: بناء على المادة العاشرة من الدستور…ألخ

وكون المواد 11 و12 و13 التي تلحظ وجود رئيس للحزب هي مواد إنتقالية لتُنفّذ فقط عند غياب الزعيم، فلن تبقى موجودة في دستور ما بعد الزعامة، ولن يبقى مِن ذكر لرئاسة لحزب، لذلك وجب في الدستور الجديد إنشاء مادة دستورية جديدة تنصّ على أن للحزب السوري القومي الاجتماعي رئيس يتولّى السلطة التنفيذية. وأيضاً مادة دستورية جديدة تنص على أن للحزب السوري القومي الاجتماعي محكمة مركزية تتولّى السلطة القضائية. وهكذا تكون المواد الدستورية قد اكتملت وتكون السلطات الثلاث قد أنشئت في مواد الدستور. وهذه المواد الدستورية الجديدة بديهي أن المجلس الأعلى هو الذي سيضعها، فالمجلس الأعلى بصفته سلطة تشريعية هو المخوّل بإجراء التعديلات الدستورية (وضع مواد دستورية جديدة هو بمثابة تعديل للدستور).


[1]   الأعمال الكاملة، ج 3، صفحة 98.

[2]   نفس المصدر، صفحة 99.

[3]  الأعمال الكاملة، ج 8، صفحة 32.