سيادة الدولة القومية وتداعياتها

سيادة الدولة القومية وتداعياتها

الحـــلـــقـــــة الأولـــى

المحور الأول: في مفهوم نشوء الدولة وتطورها

لا يمكن أن نبحث في مفهوم الدولة القومية، او في معنى السيادة القومية، خارج نطاق الوجود الحقوقي الطبيعي الحاضن لها، الا وهو المجتمع الأتم- الأمة، فحيث لا أمة لا دولة، وحيث لا دولة لا سيادة، ولا سيادة بدون ديمقراطية تعبيرية.

بناء على ما تقدم، فأننا ننطلق في دراستنا هذه من مسلمة مبدئية، أثبتتها أحداث التاريخ العام، وعززتها النظريات المختلفة في نشؤ الامم والدول وتطورهما عبر العصور، وأكدها النهج الصحيح في قيام الدولة الحديثة، وهذه المسلمة هي:

لا سيادة حقيقية بدون دولة قوية، ولا دولة حقوقية – قوية بدون أمة طبيعية، عصبيتها – روحيتها القومية، وهدفها ومبرر وجودها هو: الاقرار بأن السيادة مستمدة من الشعب، وان الشعب لم يوجد للدولة، بل الدولة للشعب، هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القومية، وفي الحتمية نقول: ان الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتما.

“الإثم الكنعاني”

ينهي سعاده كتابه “نشؤ الأمم” بهذه العبارة: “إنّ الاثم الكنعاني (الخديعة الكنعانية) لا يزال فاعلا فينا، وقد أصبح فاعلا في العالم كلّه”.

قد يستغرب البعض ويؤكده افلاطون، من أن أصول الدولة الديمقراطية الأولى ظهرت في الالف الثالث ق.م في المدينة – الدولة الفينيقية (الكنعانية) السورية، التي صارت فيما بعد طرازا أخذ عنه الاغريق والرومان فالعالم. ومن المفيد واستكمالا لهذا البحث ودقته ان نستعرض الحوار الذي جرى بين افلاطون على لسان سقراط وشقيقه غلوكون، والذي بدأه سقراط بالسؤال: أو حقا تسمية هؤلاء بالحكام الكاملين؟ وفي الإجابة يوافقه غلوكون بقوله: هكذا أرى.

يذكر ان الفيلسوف اليوناني افلاطون، اثناء اغترابه القسري 499-387ق.م عن مدينته أثينا، إثر موت معلمه سقراط اعداما بالسم، زار عدة بلدان منها مصر، صقلية، ايطاليا، فلسطين والغانج.

وبعد عودة افلاطون الى اثينا، وكان قد بلغ الاربعين، وضع كتابه الشهير “جمهورية افلاطون”، الذي قال فيه امريسون “ان افلاطون هو الفلسفة، والفلسفة افلاطون، وانعم على كتاب الجمهورية بكلمات عمر بن الخطاب عن القرآن، عندما قال: احرقوا المكتبات لان قيمتها موجودة في هذا الكتاب”

وفي فلسطين، انعجن افلاطون، كما يقول الفيلسوف ول ديوارانت، في طينة الأنبياء، ومن المؤكد ان يكون افلاطون، قد اطلع في فلسطين، على الدين الاجتماعي الخصوصي بالكنعانيين، والذي اسماه جهلا منه به: “الخزعبلة”، وعنه اخذ قوبنو وذكره هرتس حيث نعت هذا الدين “بالخديعة الكنعانية او الاثم الكنعاني”.

“الخزعبلة”: أبناء الأرض

لنقرأ “الخزعبلة ” وقد جاءت بشكل حوار بين افلاطون على لسان سقراط وشقيقه غلوكون:

سقراط: أو حقا تسمية هؤلاء “بالحكام الكاملين“؟ لاتصافهم بالعناية والسهر حتى لا يريد اصحابهم في الوطن، ولا يقدر اعداؤهم في الخارج، ان يحدثوا أدني ضرر للدولة، والشبان الذين دعوناهم الساعة حكاما نسميهم “مساعدين ” وهم الذين وظيفتهم إنفاذ قرارات الحكم.

غلوكون: هكذا أرى.

سقراط: وإذا كان الحال كذلك أيمكننا ان نختلق وسيلة حكيمة نتمكن بها تمثيل دور وهمي فالقصص التي ذكرنا آنفا، فنقتنص حتى الحكام، بفعل الذرائع، فنقنع العامة فقط؟

غلوكون: أي نوع من القصص؟

سقراط: ليس شيئا جديدا، بل قصة فينيقية، تداولتها ألسنة الشعراء، والناس موقنون بصحتها. على انها لم تحدث في عصرنا، ولا علم لي بأنها حدثت في غيره من العصور. ولكننا نقدر أن نجعلها خبرية موثوقاً بصحتها، فنحتاج الى حيلة نافذة لاقناعهم.

غلوكون: أرى أنك تتردد في الافصاح.

سقراط: سأقول، ولا أدري بأية جرأة وأي ايضاح أوردها، فأولا: أحاول إقناع الحكام أنفسهم، ثم إقناع الجنود معهم، وبعدهم سائر الأمة، ان كل ما امليناه عليهم لتهذيبهم حدث كأمر واقعي، ولكنه حلم، وفي حقيقة الأمر انهم هذبوا وثقفوا في جوف الأرض، حيث طبعوا أسلحتهم وأدواتهم وكمل تهذيبهم، وحين ذلك ولدتهم أمهم الحقيقية، وهي الأرض، أي انها قذفت بهم الى سطحها، فيجب ان يحتموا بالمنطقة التي هم فيها كأم وكمرضع، فيصدون عنها الغزاة، ويحسبون سكانها، ابناء الأرض، اخوتهم.

غلوكون: ولسبب كاف كنت تخشى ان تورد هذه الخزعبلة.

سقراط: فسمعا لبقية القصة: سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الاله الذي جبلكم، وضع في طينة بعضكم ذهبا ليمكنهم ان يكونوا حكاما، فهؤلاء هم الاكثر احتراما، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العديد ان يكونوا زراعا، وعمالا، وضع نحاسا، وحديدا. ولما كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبا، وهكذا يلد كل من يلد. وقد أودع الحكام من الله، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، هذه الوصية، ان يخصوا اولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم. فاذا ولد الحكام ولدا ممزوجا معدنه بنحاس او حديد فلا يشفقن والده عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه الى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا او عاملا، وإذا ولد العامل اولادا ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة، وجب رفعهم الى منصة الحكم، أصحاب الذهب حكاما، وأصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: ان المدينة التي يحكمها النحاس والحديد فهي الى البوار، فهل عندك من حيلة لاقناعهم بهذه الخزعبلة؟

غلوكون: لا حيلة في اقناع ابناء هذا الزمان. على انني سأبتدع حيلة تقنع ابناءهم واحفادهم وكل الاجيال التالية بصحة هذه الاسطورة.

سقراط: وحتى هذه القصة قد تفيد في جعلهم أكثر اهتماما بالدولة وبعضهم بالبعض الآخر. فاني اظن إني افهمتك. ولكننا سنترك هذه الاسطورة الى ما قضي به عليها”.

ان ما ذهب اليه افلاطون في حديثه عن “القصة الفينيقية” التي عنونها ب “من في هذا المزيج المسكر بين الفلسفة، والشعر، والعلم، والفن..”.

أضف اليه، وهو الأهم، تأكيد افلاطون على يقين الناس (الكنعانيين) بصحة هذه القصة والاعتقاد بها، وهو الباحث عن عقيدة لابناء شعبه تكون حلا للمشاكل الاخلاقية والسياسية والنفسية التي كان يتخبط بها المجتمع الاغريقي القديم، تمهيدا لإيجاد “دولة مثالية”، رأى أفلاطون صعوبة تحقيقها، مع انها كانت قائمة فعلا في كل مدينة سورية كنعانية.

المضمون العقدي

في “القصة الفينيقية ” التي رواها افلاطون مضمون عقدي قومي، تبرز خطوطه العامة فيما يأتي:

أولا: “هذبوا وثقفوا في جوف الأرض، حيث طبعوا اسلحتهم وادواتهم، وكمل تهذيبهم…”.

تبين هذه الفكرة، مبدأ التفاعل المادي- الروحي بين الأرض وانسانها. فالبيئة تحدد الجماعة من عدة وجوه: الحدود الجغرافية، طبيعة الأقليم وشكل الاقليم وتعد الفوارق الشكلية للجماعات البشرية، كما ان الترابط بين البيئة والجماعة في انواع الحياة وفوارق الاشكال وميزات العمران والاتجاه التمدني ضئيل جدا، وشخصية الجماعة مرتبطة بالارض، فلا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة.

ثانيا: “وحين ذلك ولدتهم أمهم الحقيقية، وهي الأرض، أي انها قذفت بهم الى سطحها…”

تظهر هذه الفكرة، مبدأ اهمية الأرض- أرض الوطن للحياة – حياة الجماعة، فالأرض هي الأم الحقيقية، التي تتمثل فيها وحدة الحياة واستمرار الحياة وعز الحياة، انها الرابط المقدس المنظم لوحدة الحقوق والواجبات الطبيعية بين الأرض-الأم وأبنائها.

ثالثا: “فيجب أن يحتموا بالمنطقة التي هم فيها كأم وكمرضع، فيصدون عنها الغزاة…”.

تبرز هذه الفكرة، مبدأ العلاقة الحيوية بين الشعب والبيئة الطبيعية، فيتعلق الشعب بالبيئة، اساس حياته فلا يفارقها، ولا يرضى عنها بديلا، تماما، كالطفل الرضيع، يتعلق بأمه، فتعطيه من قلبها وعقلها ودمها. وفي المقابل، يحمي الشعب بيئته، فيصونها، ويدافع عنها، فيعطيها كل ما اعطته، حتى دمه متى طلبته وجدته.

رابعا: “ويحسبون سكانها، أبناء الأرض، اخوتهم “.

تمثل هذه الفكرة، مبدأ الاخاء القومي، ارتباط الشعب بالأرض – الأم، وهي الظاهرة القومية الأولى في العالم، ويقظة الوجدان القومي، الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، فضلا عن تأكيد نظرية المساواة بين الأخوة أبناء الأرض الواحدة.

خامسا: “… سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الاله الذي جبلكم ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العديد ان يكونوا زراعا، وعمالا، وضع نحاسا، وحديدا. ولما كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالاولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبا، وهكذا يلد كل من يلد. وقد اودع الحكام من الله، قبل كل شيء، وفوق كل شيء، هذه الوصية، ان يخصوا اولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم، فاذا ولد الحكام ولدا ممزوجا معدنه بنحاس او حديد فلا يشفقن والدوه عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه الى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا أو عاملا. وإذا ولد العامل اولادا، ثبت بعد الحك ان فيهم ذهبا او فضة، وجب رفعهم الى منصة الحكم، اصحاب الذهب حكاما، واصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: ان المدينة التي حكمها النحاس والحديد فهي الى البوار”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *