«سوراقيا في عصر العولمة الأميركية»، تظهر دون أي لبس، أن العالم العربي بدوله وشعوبه ومقاومته هو في حال «ردة فعل» على الهجمة الاستعمارية الغربية والتي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر مع فائض قوة الدول الأوروبية العسكرية والاقتصادية (الثورة الصناعية.(
لقد وجدت الدول الأوروبية ضالتها في استعمار قارتي آسيا وأفريقيا بعد أن استولت على القارة الأميركية بشمالها وجنوبها، خاصة وان هاتين القارتين لم تكونا قد دخلتا بعد عصر الدولة – الأمة الحديث.
ما حصل بعد ذلك هو ردات فعل لدرء هذا الهجوم. وفي عالمنا العربي، اتخذت ردات الفعل شكلين مختلفين: الانصياع والاستسلام للغرب من جهة، ومقاومات شعبية من جهة أخرى. لذلك كل حديث نسمعه اليوم «المقاومات» على «أفعالها» هو حديث خاطئ، لأن ما تقوم به هذه المقاومات هو الدفاع عن شعبها وأرضها، أي هي في حالة دفاع وليست في حالة هجوم كما يحلو للبعض تصورها.
لقد عانت منطقة الهلال الخصيب منذ القدم غزواً واحتلالاً واجتياحات لم تتوقف، تارة من الشرق، وأخرى من الغرب، إذ إن موقع هذه المنطقة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط له أهمية استراتيجية بالغة لكل من يريد أن يسيطر على خطوط الإمداد والتواصل والتجارة قديماً وحديثاً. ولا تشذّ أسباب الحرب على هذه المنطقة خلال العقدين الأخيرين عنها. إلا أنني سأورد ميزاتها الخاصة تحت ثلاثة عناوين: السياسة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، والعولمة الاقتصادية، وهندسة المجتمعات الضعيفة.
السياسة الاستراتيجية للولايات المتحدة
مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية مقيّدة اليدين في الشرق الأوسط، ما فتح المجال أمام أهم مراكز الدراسات الاستراتيجية إلى وضع خطط لنقل «إسرائيل» من حال المراوحة إلى حال السيطرة على المشرق العربي. تمّ تنفيذ هذه الخطط بحذافيرها بدءاً من رئاسة جورج بوش الأب وحتى اليوم، وانخرط فيها الرؤساء الجمهوريون وكذلك الديمقراطيون (1). فحين نقرأ البنود المطلوب تحقيقها، نُصاب بالذهول لمدى تطابق هذه البنود مع واقع الحرب التي نعيشها على رغم أنها كُتبت منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن!
ترأّس ريتشارد بيرل (2) مجموعة رؤساء مراكز الأبحاث الاستراتيجية المهتمة بإرساء سياسة جديدة سُميت «القطع مع السياسات السابقة» (A Clean Break)، وسُلّمت لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك (3(.
الأحداث التي اجتاحت «سوراقيا»** منذ عام 2002 ما هي إلا التطبيق العملي والدقيق لخطة «القَطْع مع الماضي» الأميركية التي تهدف إلى التدمير المنهجي لدول سوراقيا كأنظمة، وجيوش ومجتمعات، وتشمل هذه الخطة النقاط التالية:
-أولاً، التوقف عن العمل باتجاه إحلال «سلام شامل وعادل» بين «إسرائيل» والدول العربية، والتعاون مع تركيا والأردن عوضاً عن ذلك لاحتواء العراق وسوريا ولبنان-المقاومة، ومن ثم زعزعة هذه الدول وإرغامها على التراجع والانكفاء.
-ثانياً، تغيير العلاقة بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين باتجاه ملاحقتهم حتى ضمن مناطقهم، والتخلّص من ياسر عرفات.
-ثالثاً، رفض إجراء مفاوضات تحت شعار «الأرض مقابل السلام» واستبداله بشعار «السلام مقابل السلام» الذي تَضْمَنُه «إسرائيل» بخلق توازن ردعي مع الدول العربية.
-رابعاً، الطلب إلى «إسرائيل» مواجهة إيران وسوريا وحزب الله عسكرياً على حدودها الشمالية، بما أن إيران وسوريا تدعمان المقاومة في جنوب لبنان.
-خامساً، القيام بحملة ضد زراعة الماريجوانا في لبنان لحرمانه من أي فائض مادي يستفيد منه، وقد تستفيد منه سوريا أيضاً (4).
-سادساً، إشعال حرب في سوريا من خلال استعمال قوات بالوكالة وبديلة عن القوات الأميركية أو الإسرائيلية.
-سابعاً، التشديد في المحافل الدولية على أن «إسرائيل» لا تستطيع أن تتعامل مع نظام سوري «ديكتاتوري»، ولا البحث في موضوع إعادة أراضي الجولان المحتلة، في الوقت الذي «تستحوذ» فيه سوريا على أسلحة دمار شامل، وبالتالي لن تجري أيّ مفاوضات قبل احتواء سوريا من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
-ثامناً، أن بالإمكان السيطرة على سوريا من خلال اتخاذ الخطوات التالية:
أ) خلق بيئة استراتيجية ملائمة لـ«إسرائيل» عبر تعاونها الوثيق مع الأردن وتركيا.
ب) إسقاط صدام حسين لأن إسقاطه يحجّم الدور الإقليمي السوري، كما أن تدمير العراق يؤدّي إلى تغيير ميزان القوى لصالح «إسرائيل» وتركيا.
ج) اللجوء إلى حروب استباقية وعدم الاعتماد على العمليات الانتقامية فقط.
استطاع المحافظون الجدد البدء بتنفيذ هذه الخطة عام 2002، أي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وذلك لوجود الأكثرية الساحقة من قياديّيهم على رأس الإدارة الأميركية في فترة رئاسة جورج بوش الابن. ولقد لعب بول ولفوفيتز كنائب وزير الدفاع دوراً حاسماً في تطبيق هذه الخطة، وفي إقناع الرئيس جورج بوش باحتلال العراق. ويقول دونالد رومسفيلد، وزير الدفاع الأميركي (2001 – 2006) إن وولفوفيتز بادر إلى طرح موضوع احتلال العراق مباشرة بعد 11 أيلول 2001، وإنه كان المهندس الرئيسيّ لسياسة بوش في العراق (5). ومن المعروف أن وولفوفيتز من أشدّ مناصري «إسرائيل» منذ رئاسة رونالد ريغان، حين تبوّأ مركز مدير عام في وزارة الخارجية الأميركية عام 1980.
هكذا نجد أنّ ما خطّط له المحافظون الجدد تبنّاه رؤساء الولايات المتحدة: جورج بوش الأب، والابن في ما بعد، وكذلك بيل كلينتون وباراك أوباما. لقد بدت هذه الخطة مغرية لهؤلاء الرؤساء لأنها تعتمد في الوصول إلى أهدافها على جيوش من المرتزقة لا يتورّط فيها جنود أميركيون، وبالتالي لن يواجه الرؤساء الأميركيون أيّ محاسبة من قبل شعبهم أو الكونغرس، كما أنها تُظهر هذه المعارك وكأنها حروب أهلية، أو حروب بين العرب، لا دخل لـ«إسرائيل» أو الولايات المتحدة فيها.
** سوراقيا هو اسم أسبغه أنطون سعادة على منطقة الهلال الخصيب لأن بلاد الشام والعراق مثّلت وحدة اقتصادية-اجتماعية منذ القدم، ولم تتم تجزئتها إلى دويلات طائفية إلا مع الاحتلال البريطاني-الفرنسي للمنطقة مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
المصادر:
(1) “A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm. Institute for Advanced Strategic and political Studies, July 2006.
(2) عمل ريتشارد بيرل (Richard Perle) مساعداً لوزير الدفاع من عام 1987 حتى عام 2004.
(3) المشاركون في وضع استراتيجية جديدة للولايات المتحدة و«إسرائيل» هم:
– Richard Perle, American Enterprise Institute
– Douglas Feith, Feith and Zell Associates.
– David Wurmser, Institute for Advanced Strategic and Political Studies.
– Meyrav Wurmser, Johns Hopkins University
– Jonathan Torop, Washington Institute for Near East Policy.
– Robert Loewenberg, President of Institute for Advanced Strategic and Political Studies.
– Charles Fairbanks Jr. Johns Hopkins University, SAIS.
– James Colbert, Jewish Institute for National Security Affairs.
واضح من هذه اللائحة أن جلّهم محافظون جدد وصهاينة متشدّدون لا يرون اختلافاً بين الأهداف الأميركية والغايات الإسرائيلية.
(4) تعتبر الولايات المتحدة الماريجوانا مادة شرعية لا يعاقب القانون من يتناولها أو يتاجر بها.
(5) مقابلة دونالد رامسفيلد على قناة «فوكس» في الثامن من شباط 2011.
صفية أنطون سعادة