آخذين بعين الاعتبار محاولات المتروبولات أو المراكز الرأسمالية توظيف الفسيفساء المذهبية والإثنية والجهوية وتضخيم الهويات المختلفة واللعب فيها لتمزيق الشرق والسيطرة على موارده والشرايين الجغرافية للطرق والممرات الدولية، ثمة حاجة للتمعن في هذه الفسيفساء وتوسيع القواسم المشتركة بينها بعيداً عن التشنج الجهوي والطائفي، أياً كانت موضوعية وعلمية الإحالات التاريخية لهويات قومية أو ثقافية، فالمسألة السياسية وليس الأيديولوجية والأنثروبولوجية هي الميدان المطلوب لذلك.
يرى الأكراد والأرمن بمستويات متفاوتة من التأصيل القومي أنهم لا يزالون ضحايا للعالم الذي تشكل بعد الحرب الأولى وانخرطوا من مواقع مختلفة في الصراعات السياسية داخل الإقليم.
ولم تمانع بعض العائلات الإقطاعية والنخب الليبرالية من مد يد التعاون مع الدوائر الأطلسية، بل ذهبت أوساط كردية.. وبدرجة أقل كثيراً، أوساط أرمنية قليلة للتعاون مع الحركة الصهيونية وأجهزتها وبذريعة المعاهدات الصهيونية مع أكثر من دولة إقليمية مثل تركيا وأذربيجان وأكثر من دولة عربية.
وبالرغم من تأييد روسيا الاشتراكية بقيادة لينين لتركيا في الحرب ضد التحالف البريطاني – اليوناني وطي صفحة اتفاقية سيفر، التي اعتبرها الأرمن فاتحة لاستقلالهم القومي على الأراضي التاريخية لأرمينيا، إلا أن روسيا دعمت الأرمن بإقامة جمهورية مستقلة في إطار اتحاد جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وهو الأمر الذي لم يتحقق للأكراد لا بعد الحرب العالمية الأولى ولا بعد الحرب الثانية حين أقاموا أول جمهورية لهم في مهاباد، لم تستمر طويلاً.
ولم ينتبه الأمراء لهذا الدرس المتمثل بالميل العام لدول الإقليم وللوضع الدولي ضد أي شكل سياسي كردي مستقل، ومن ذلك التوظيف البريطاني والأمريكي والفرنسي لشعار الاستقلال الكردي والتخلي عنه في الصفقات المتتالية، كما سنرى.
ومن مفارقات الحالة الكردية – الأرمنية أن لقواسم الخيارات السيئة الأخيرة من التقاطع تحت الخيمة الأطلسية الصهيونية – تاريخاً من الصراع المباشر، حين نفذت ميليشيات كردية مسلحة تابعة للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني أولى المذابح ضد الأرمن والتي توجها حزب الاتحاد والترقي بالمذبحة الكبرى مع مطلع الحرب الأولى.
الأكراد
من الصعب تحديد عدد الأكراد في المنطقة والعالم، حيث يقدرون أنفسهم بحوالي الثلاثين مليوناً معظمهم في جنوب وشرق تركيا وجاليات في إسطنبول ومدن أخرى، بالإضافة للعراق وإيران وسوريا وانتشار في أكثر من دولة عربية وغير عربية، بل إن أوساطاً كردية تعيد قسماً كبيراً من منطقة الخليل الفلسطينية إلى أصول كردية قدمت مع الأيوبيين واستفاد بعضهم من الإقطاع العسكري الذي فرضه صلاح الدين.
أما على الصعيد الاجتماعي فغالبيتهم من الفلاحين، ويتوزعون مذهبياً بين المذهب السني وخاصة في العراق وإيران وسوريا، وبين التشيع والمذهب العلوي وخاصة في تركيا إضافة إلى مجموعات من اليزيديين وأعداد أقل من المسيحيين واليهود.
وكما الأمازيغ (البربر) شمال إفريقيا تتراوح الإحالات التاريخية بين اعتبارهم كيانات اجتماعية خاصة ليست بعيدة عن الأرومة العربية، وبين البحث عن تباينات قومية لهم، فيما يعتبرهم أنطون سعادة جزءاً من التكوين الاجتماعي السوري في سوريا التاريخية، بالنظر إلى قراراته الخاصة للأمم كتشكيلات اجتماعية – ثقافية انصهرت في إقليم بعينه بصرف النظر عن أصولهم السلالية.
في العراق، لا تزال العائلة البرازانية وحزبها، الاتحاد الديمقراطي، التي تنحدر من أصول إقطاعية تتصدر المشهد السياسي الكردي وتحتفظ بعلاقات مع واشنطن وإسرائيل وتركيا، ثم يأتي الاتحاد الوطني الذي أسسه جلال الدين الطالباني ومركزه السليمانية ويحتفظ بعلاقات هادئة مع طهران، إضافة إلى بعض الجماعات الإسلامية والنفوذ كبير داخل الحزب الشيوعي العراقي.
في سوريا، برزت الأوساط الكردية من خلال أكثر من جماعة إسلامية سلفية وصوفية، لبعضها علاقات قوية مع دمشق كما من خلال الحزب الشيوعي السوري وزعيمه التاريخي الكردي خالد بكداش، كما عرفت أطراف سوريا الشمالية والشرقية نشاطاً لجماعات أخرى مع ازدياد الموجات الكردية إليها، وكان أكبرها الجماعة المقربة من قاسلمو من أكراد إيران والتي صارت القوة الأساسية لما يعرف بـقسد المعروفة بصلاتها مع الاحتلال الأمريكي.
قبل انحراف الفرع السوري والعراقي من حزب العمال الكردستاني، الذي نشأ وسط أكراد تركيا وتورطه مع قوة كردية أخرى بالتنسيق مع قوات الاحتلال الأمريكي في سوريا، ومع السيناريوهات الأمريكية لتمزيق دول المنطقة وفق كانتونات وفدراليات طائفية وجهوية، قدم الحزب في نهاية سبعينيات القرن الماضي، قراءة متقدمة لدور الأكراد في عموم المنطقة تربط هذا الدور بحركة التحرر العربية والتركية ومصالح شعوب المنطقة في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية والتركية، وانطلاقاً من هذه القراءة انخرط الحزب في صفوف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ضد العدو الصهيوني وأدواته، وقدم ملحمة قتالية في معركة قلعة الشقيف 1982. وظل لوقت محصناً ضد التوظيف التاريخي المعروف سواء للأكراد أو لغيرهم من الجماعات الإثنية والثقافية من قبل الإمبرياليات الثلاث: الأمريكية، الفرنسية، والبريطانية.
بيد أن الحزب في سوريا والعراق سرعان ما سقط في خطاب القوى الكردية الانعزالية، التي تحولت إلى مخلب قط بيد الإمبرياليين وانخرطت في أوهام الانفصال بالاتكاء على هؤلاء الإمبرياليين ومعهم جهاز الموساد الصهيوني، الذي سبق وشارك المخابرات الأمريكية والتركية في اختطاف واعتقال قائده التاريخي – عبدالله غولان (آبو).
وكان مؤسفاً تداعي القوى الكردية الواحدة بعد الأخرى في الأوهام الانفصالية التي برهنت التجارب على بؤسها وفشلها الذريع، إذ تحولت هذه الأوهام إلى بضاعة برسم السمسرة في مطابخ أقلام الاستخبارات الإمبريالية التي لم تتورع عن بيع الملف الكردي في كل مرة مقابل مكاسب هنا وهناك، الأمر الذي يستدعي مراجعة واسعة من الأوساط الكردية الوطنية وإعادة إنتاج الخطاب التأسيسي لحزب العمال الكردستاني الذي يربط مصير الأكراد ومصير شعوب المنطقة ومصالحها الوطنية والاجتماعية.
فبدون هذه المراجعة تواصل القيادات الكردية تضليل القطاعات الواسعة من الأكراد وتقدمهم قرابين على مذبح الإمبرياليات الأمريكية الأوروبية ومشاريعها وحروبها الأصلية، دون أن يحصل الكرد على دولة قومية خاصة، بصرف النظر عن الموقف منها، لا سيما إذا عرفنا أن الكرد لم يعرفوا أي تمييز ضدهم بل إن العرب لا يزالون يعتبرون صلاح الدين من رموزهم التاريخية وكذلك شعراء مثل أحمد شوقي في مصر والجواهري في العراق ومثل محمد علي أحد مؤسسي مجمع اللغة العربية في دمشق.
الأرمن
الأرمن شعب عريق أقام أكثر من دولة اتخذت إحداها من المسيحية اليعقوبية أيديولوجياً لها، قبل أن تتحول الإمبراطورية الرومانية الشرقية إلى المسيحية زمن قسطنطين، وظلوا جزءاً من التجاذبات والتحالفات والصراعات من حولهم، حيث كانوا ينتشرون بين أرمينيا الحالية وهضبة أرمينيا التي تقع اليوم في تركيا.
وكما برز الكثير منهم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً في الشعوب التي تعايشوا معها، برز الكثير منهم في الوسطين العربي والإسلامي ولا سيما في العهد الفاطمي، كما برز منهم مبدعون من رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر مثل أديب إسحاق (إسحاقيان) وقدموا عشرات الشهداء ضمن حركة التحرر والجيوش العربية في سوريا ولبنان والأردن، مثل الشهيد خضر يعقوبيان في معركة الكرامة وبالمثل العديد من الشهداء في معارك المقاومة الفلسطينية في لبنان وخاصة في معركة قلعة الشقيف إلى جانب آخرين من الأكراد والفلسطينيين واللبنانيين.
ومن المعروف هنا أن الأرمن بعد المذبحة الكبرى ضدهم في تركيا وتهجيرهم من أراضيهم، استقبلوا في سوريا التاريخية (سوريا الحالية والأردن ولبنان وفلسطين) وفي العراق ومصر وصاروا جزءاً من الحياة العامة في هذه البلدان، وشكلوا في لبنان (الأشرفية والمتن والبقاع) أكبر تجمع لهم وانخرطوا في الحياة السياسية اللبنانية بكل تشكيلاتهم المعروفة من الطاشناق والهانشاق وغيرهما.
تزامن ظهور الأرمن السياسي في المنطقة مع تفسخ الإمبراطورية العثمانية زمن السلطان عبد الحميد الثاني وخضوعها تحت سيطرة ومشيئة (هيئة الديون العثمانية) وهي هيئة مشكلة من ممثلين للمتروبولات الرأسمالية الاستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا، والتي وضعت يدها على الاقتصاد التركي بجهة استعادة الديون الأوروبية وشكلت لهذه نهاية البنك العثماني بمشاركة يهودية من آل روتشيلد.
في هذه المناخات كانت الفئات المالية الكبرى النافذة في إسطنبول خليطاً من اليونان والطليان والأرمن واليهود، بالإضافة لشركات بريطانية وفرنسية وألمانية وروسية.
وقد لاحظ الصيارفة والبرجوازيون اليهود أن الأرمن هم المنافس الأكبر لهم للاستحواذ على الاقتصاد الرأسمالي التركي الناشئ، فاستفادوا من هزائم تركيا أمام روسيا القيصرية في حرب القرم وغيرها، وراحوا يحرضون على الأرمن ويتهمونهم بالتعاطف مع روسيا التي كانت تكن كراهية لليهود في ذلك الوقت، وهي الكراهية التي عبر عنها معظم الأدباء الروس الكبار مثل دوستوفيسكي.
وثمة وثائق تشير إلى أن أكثر من مذبحة تعرض لها الأرمن على يد الأتراك عبر المليشيا الكردية السلطانية، كانت بتحريض يهودي وصولاً إلى المذبحة الكبرى مع بداية الحرب العالمية الأولى والتي قتل فيها مليون أرمني، كما هو معروف أيضاً أن وحدات أرمنية عسكرية سرية لاحقت المسؤولين الأتراك عن هذه المذابح وكانوا قادة سابقين في حزب الاتحاد والترقي الحاكم، وقتلت معظمهم في ظروف مختلفة مثل جمال باشا وأنور باشا وطلعت باشا.
مع هزيمة المحور الألماني – التركي في الحرب العالمية الأولى، وسقوط روسيا القيصرية، أعلنت الثورة الاشتراكية في روسيا عن حق تقرير المصير للشعوب التي كانت خاضعة للقيصرية، وبضمها الأرمن الذين أقاموا أول جمهورية لهم في التاريخ، وحيث لعبت روسيا الجديدة دوراً أساسياً في قيام هذه الجمهورية، إلا أن أوساطاً من الأرمن أخذوا على الثورة الاشتراكية ولينين تحديداً دعمهم لمصطفى كمال (أتاتورك) مؤسس تركيا الحديثة وتزويده بالأسلحة والدعم البحري مما مكنه من هزيمة التحالف البريطاني – اليوناني وإلغاء اتفاقية سيفر (1921) التي كانت قد أعطت الأرمن دولة سياسية على هضبة أرمينيا (توجد اليوم ضمن الدولة التركية ومنها جبل ارارات المرتبط أيضاً بالأسطورة الخاصة بسفينة نوح.
بعد الانهيار السوفياتي 1990 صمدت جمهورية أرمينيا ضد الثورات الملونة وتمكنت بدعم بوتين من الحصول على تسوية عادلة فيما يخص إقليم كاراباخ (قره باخ) بحيث تتقاسم أذربيجان وأرمينيا هذا الإقليم والحكم الذاتي فيه، لكن جماعة الثورة الملونة في أرمينيا بالتوازي مع ثورة ملونة في أوكرانيا بقيادة اليهودي زيلنسكي نجحت لاحقاً في تشكيل حكومة في يرفان برئاسة شابينيان، المعروف كما زيلنسكي بعلاقاته القوية مع واشنطن وفرنسا.
لم تفتقد الحكومة الجديدة في أرمينيا للوفاء فقط، بل لم تتورع عن تنظيم مناورات عسكرية مشتركة مع وحدات أمريكية قرب الحدود الروسية، وعندما سقطت رهاناتها على دعم أمريكي لها في ملف كاراباخ بعد اجتياحه من قبل قوات أذربيجان لم تتورع أيضاً عن التخلي عن الشعب الأرمني المقيم في هذا الإقليم.
لم تجد موسكو سبباً واحداً لدعم يرفان ضد غزو أذربيجان بعد أن ذهبت كثيراً في العلاقة مع واشنطن، وقررت أن تقف على الحياد بانتظار معطيات وحسابات أخرى – لا سيما وأن ما بين الحكومة الأرمنية، وحكومة أذربيجان – يتخطى التوترات الأخيرة إلى انخراط الحكومتين في ألاعيب الأطلسي.
وبالمقابل كما سيجد الأكراد أنفسهم أمام تداعيات أوهام ورهانات بلا آفاق، فل يكون مصير حكومة يرفان الملونة أفضل حالاً.
فاللعب في هذه المنطقة الحساسة ليس خطراً وحسب بل وقاتلا أيضاً.