تأملات في عقل سعاده

منذ صغري عرفت فطريا أهمية التأمل في سيرتي وفي أعمال الناس وأقوالهم. وفرحت جداً عندما عثرت على اَية في التأمل عبّر عنها الخليفة عمر بن الخطّاب: “إن أعظم متعة لدي هي التأمل في عقول الرجال”. وفي الواقع إن الكتابة هي الكلمة الواقعية لعملية التأمل في التاريخ والواقع والناس والافكار. ومن منّا لم يلاحظ الإجتياح العالمي للفلسفات الصينية والهندية القائمة على الوعي والتأمل والتركيز والتخاطر الفكري؟!

يسعدني في “حجر الزاوية ” أن يكون المفكرالسوسيولوجي والمناضل السياسي الزعيم “أنطون سعاده” ضيفاً في بيته، علماً أنّه ضيفنا السري الدائم في الصدور منا، وفي صراعنا لبناء دولة الوطن، والحرية، والتراث، والتقدم.

يكتب التاريخ، إذ نكتبه، قدر السير في طريق النضال والتقدم، لأننا لن نكون في النهاية، أفرادا ودولاً، إلا ما يكونه تاريخنا. طوبى للأمة التي تعرف تاريخها، وويل للأمة إذا كانت تجهل الماضي والتراث والآثار والينابيع والجذور. أسئلة بسيطة إنطلق منها سعاده وتوفّق بقدرما سمح له عمره النضر بالعثور على أجوبة عميقة. واحبّ اتباعه هذه الأسئلة السياسية الوجودية وأعجبوا بها. سأل ذاته: “من نحن؟” وأرفق التسآل بصرخة وطنية بليغة الجرح: “ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟”. ومن عمق الجرح وبعد الهمة انبجست عقيدة وطنية صلدة كانت لها آثارها البعيدة في الأمة المشرقية. وكان دائم التأمل في هذه الأفكار المحيية التي دفعت به دفعاّ الى تأسيس حزبه العظيم حيث لم ينقطع ابداً حبل تأملاته في التاريخ والفكر والمصير. وقد تميز بإنحيازه الواعي الى الإبداع والفرادة ونقد الذات والأخذ بالجديد والحقيقي والمحافظة على الأساليب التراثية في المسير والتعبير والمصير. وبات، وهو البحر والنبع والمحيط، أقرب الى كونه نهرا هداراً أبدي التدفق وعالمي المسير. كما قاده تأمله الملوَن باوجاع الانسان والوطن الى إعادة نظر دائمة في كل فكرة ونظرة وخاطرة على ضوء المكتسبات العلمية والمادية في شتى مقولات الإبداع. وفي كل ذلك الفوران البركاني ظل هو هو. بقي أميناً ولصيقاً بالطريق التي سلكها. ظل وفياً لأمته ووطنه ورفقائه حتى النفس الأخيرصارخا بوجه الطغيان البائد: “انا أموت … أما حزبي فباقٍ.” وهدد الطاغوتَ بأن إنتصار أبناء النهضة سيكون هو الثأر لموته. فنحن أمام دينامية خالدة الحركة وبدافعية ذاتية تمثلها أجمل تمثيل الزوبعة الحمراء التي تتوسط علم البلاد. فسعاده يردد في أغواره: “التوقف تأخر! “.

وكم كان اعتزازه عظيماً بجنود النهضة القومية الذين أوحوا اليه بهذه الآية الرؤيوية: ” كلما تسلقنا قمة تراءت لنا قمم أخرى “.

سؤال ثالث تأمله بتحديقة العالِم: “هل تصبح الارض أمة واحدة؟ من يدري!؟ “. غريب هذا التساؤل من مفكر كرّس دقائق عمره للاهتمام بشعبه، بقوميته، ببلده، بمنطقة من هذا الكوكب وفي زمان انفجار القوميات والدول في عالم نسي الدولة الامبريالية التي حكمتنا طوال ألفيات ست تقريبا!! الا ان سعاده يعي كعالم كبير وكمثقف عالي النبرة أن الانسانية مبدأ سابق ومتعال على سائر المبادىء الأخرى. سأل وسارع الى الجواب بسؤال: “من يدري؟”.  كان من الطبيعي في زمن البراكين الدولية والقومية ان يحتاط لأمر الدولة الكونية الواحدة بالتساؤل مفسحاً بالمجال أمام النظريات الجديدة والتطور.        

اليوم وبعد تجربتَي “عصبة الأمم وجمعية الأمم المتحدة”، وبعد تناسل الدول نرى أن وحدة الارض أمرملحاحٌ وقابل للتنفيذ لأن التكنولوجيا الهندسيه في الاتصالات والمواصلات والطاقة والذرّة جعلت فعلا من أرضنا وطنا واحداً ولو تعددت الحدود وكثرت الفيَز التي بدأت بالاندثار في كثير من البلدان. فمنذ سبعينيات القرن العشرين وصف كوكبنا بالقرية الواحدة! فما بالك اليوم وأنت تحدّث صديقك بالصوت والصورة على بعد آلاف الكيلومترات وبدون اسلاك! وأكثر، فما رأيك بالهولوجرام الذي يحضر لك فردا راحلا بصوته وهيئته وفكره …؟! ان اسوأ أنواع المجازفات هي المجازفات الفكرية! العالم الحقيقي يسكنه هاجس الحقيقة المدّعَمة بالاسباب والوقائع والمنطق. وكل ما خالف ذلك لا يستحق أن يُقرأ. نعم صارت الارض واحدة ولو لم تكتمل الصورة كما نحب ونريد. على الأقل نحن في الخطوات الاولى من رحلة الالف ميل.

ترّنُ في أذني كلمة سعاده: ” ان العالم مقبل على الأخذ بالنظرة الاشتراكية في نهاية الامر”. هنا نجد تقريراً أقرب الى الجزم لأن الواقع بدأ يتجه بقوة نحو ان تكون الاشتراكية (وهي مزيج من الانسانية والشيوعية) نظامَ حكمٍ بديل عن الرأسمالية التي لا تطيق نفسها اليوم! فهل يمكن ان نغير صفة “الإجتماعي” في اسم الحزب الى “الاشتراكي”؟! وكلنا يعرف ان “الاجتماعي” أضيفت على الاسم الأصلي “الحزب السوري القومي”. وأكثر من ذلك، حتى الصفة القومية مضمرة في الصفة “السوري” فما هو رأينا في النظريات الفلسفية المعاصرة ولماذا كانت الآية “هنا النهضة” تزين رأس جميع الصادرات؟!

وهدأت خواطري هنيهة حسبتها دهراً. وبدا سعاده أمام نظري بجبهته الوضّاءة وبسمته الرائعة، فحملق ورمى صخرة في بحيرة افكاري بقوله “وماذا بعد؟”.  أفقت من سبات أهل الكهف ورأيت نفسي في عالم من نوافذ وآفاق ومسارات. كان سعاده استشرافياّ وسباقاّ، ولكنه كان يأخذ حذره ويلازم الجانب الآمن بعيداّ عن الضباب والأوهام. كان يوزع عينيه بنظرة الى الماضي، وبطرفة الى المستقبل.

في كتابه “نشوء الأمم” أخذ بأكثر العلوم حداثة وانطلق الى ما هو أبعد، فأضاف بإبداع عنصر “المصير المشترك” في نشوء الأمم. كان ينافس نفسه فلا يعرف بحر تأملاته سكوناً ولا ركوداً. ففي معالجته للنشوء البشري بحث في التعليل “الدارويني” وفنّده وسلّم به لأنه معطى علمي ومنطقي وان كنا لا نملك وثيقة تطورِنا خلال مليارات من السنين. أما التعليل الديني المعروف فقد نقده ثم نقضه في غياب أي دليل مادي وواقعي.

فهذا الموقف من الدين يتعدى العلمانية بأشواط الى اعتباره مكوناً فكرياً تاريخياً بعيداً كل البعد عن الماورائيات والاوهام التي لا تصلح ان تكون مادة للبحث العلمي. يقول في خطاب له: “لقد شاهدتم اديانا هابطة من السماء الى الأرض، اما اليوم فإنكم ترون ديناً جديداً يرفع النفوس بزوبعة حمراء من الأرض الى السماء”. هل هذا حلم أم خيال ام عاطفة؟ أبداً! ما أبعد ما يكون سعاده عن الأوهام والمشاعر. أليس هو القائل: “العقل هو الشرع الأعلى للإنسان؟”.

تدهشني كلمته في شعار الحزب: “الزوبعة شعار سومري قديم” في زمن الندرة الاركيولوجية والفلسفية. فلا عجب في ذلك ووالده العلّامة الدكتور خليل سعاده الذي ترجم “انجيل برنابا” بعدما استحصل على عشر نسخات من كبريات المكتبات الأوروبية. كذلك لا تفارق خاطري كلماته في دير الغزال (شرقي زحلة) عن حروب النهضة ضد التنين على غرار حرب مار جريس (الخضر). ولما رأيت نفسي مستغرقا في سفرة طويلة في جغرافيا الأوطان ودّعدت بتحية قائلا في نفسي: “الدنيا مبتدأ وخبر: الجغرافيا هي المبتدأ، والخبر هو التاريخ”. وبالفعل، كما أنه لا زمان بدون مكان، كذلك لا حدث ولا تاريخ ولا فكر … بدون جغرافيا! وحدثني مطولاً عن القيادة والزعامة والأمانة، عن مصدر السلطات والنهج والقانون، عن التحديث والعصرنة والتقدم. وهذه أشياء لم يئن أوان البوح بها. وودعني بقوله:

“إن لم يكن الرفيق زعيما وأمينا في فكره والسلوك، فلا أنا منه ولا هو مني”.

وعدت الى دفاتري والكتب وأنا اردّد الآية: “التطرف هو قمة الاعتدال.” وتذكرت كلمة أوغسطينوس: “أحببْ وافعل ما تشاء”. وتهت في فضاء أفكاري التي لم تغادرها كلمة جبران خليل جبران المحفورة في وجداني منذ الصبا:

“أحب من الناس المتطرفين. أحب ذاك الذي صلبوه من اجل تطرفه”.