الواقع المرير للاقتصاد العربي

الواقع المرير للاقتصاد العربي

على الرغم من ضخامة ثروته وموقعه الاستراتيجي، والقوى العاملة الشابة فيه، يواجه العالم العربي تحديات عميقة الغور، فالمخاطر الجيوسياسية واضحة كل الوضوح، ومنها: النزاعات المتعاقبة في سورية واليمن، والصراع المستمر في بلدان ما بعد الانتفاضة، مثل مصر وتونس، والضغوط الاقتصادية المتواصلة لانهيار أسعار النفط العام 2014. غير أن هذه القضايا الملحّة تحجب تحديات أكثر خطورة تواجه المنطقة. فقد تكشّف العطب في نموذج الدولة الريعية الذي بنيت عليه الاقتصادات العربية، وظهر الخلل في آليات التوزيع فيه بعد الحرب العالمية الثانية.

اقترن تطبيق نموذج التنمية العربي بالتركيز على الإنتاج المحلي والنزعة التجارية الحمائية، وذلك ما يعرف بتصنيع بدائل المستوردات. وفي العقود الأولى بعد الحرب، حققت أغلبية البلدان العربية نتائج إيجابية في ميدان النمو الاقتصادي، وسجّل كثير منها ارتفاعاً ضخماً في معدل العمر المتوقع، والقدرة على القراءة والكتابة، والصحة العامة. وفي الستينيات والسبعينيات، كان الشرق الأوسط هو المنطقة الأسرع نمواً في العالم. وتعزّز ذلك بالحظر على النفط العام، وأفضى ذلك إلى تغير دائم في بنية أسواق الطاقة العالمية، ومهّد السبيل أمام العائدات النفطية الاستثنائية التي أعقبت ذلك.

تنتفع كل دولة بريع ما، سواء مصدره الأملاك، أو السياحة، أو الموارد الطبيعية، أو “نِعَم الطبيعة” الأخرى. بيد أن الدولة الريعية تعتمد على الإيرادات المترتبة على استخلاص الموارد الطبيعية التي تملكها الدولة وبيعها.

في النظام الريعي، تستخدم الدولة ما تتلقاه من مدفوعات مقابل استخدام عوامل الإنتاج الثابتة لتمويل شبكة واسعة من مجالات الرعاية والخدمات الاجتماعية للسكان. وعلى مدى سنين عديدة، حافظت الريعية الناجمة عن مبيعات النفط على الوضع السياسي والاقتصادي القائم في الشرق الأوسط. غير أن انخفاض أسعار النفط، وتعاظم المنافسة العالمية، وارتفاع معدل التكاثر السكاني قد أفقدت هذا النموذج طابع الاستدامة. ويتجلّى ذلك بصورة أوضح عند مقارنته بمناطق جغرافية أخرى شهدت نمواً اقتصادياً ديناميكياً مستداماً في العقود الأخيرة، مثل جنوب شرق آسيا.

إن الجمهوريات العربية المصدّرة للنفط – الجزائر والعراق وليبيا – تستمدّ دخلاً مهمّاً من الموارد. وكانت سورية واليمن ذات يوم من البلدان المصدّرة للنفط غير أن الإيرادات انهارت عندما تضافرت عوامل الحرب وتضاؤل الإنتاج وانخفاض الأسعار. وفي هذه البلدان الخمسة، أنفقت العائدات بصورة غير عقلانية، وكانت محصلة ذلك اقتصادات متدنية الأداء، ولم يكن من قبيل المصادفة أن هذه الدول الخمس كانت هي الأكثر معاناة للصراعات الداخلية خلال العقود الأخيرة. وقد تسفر اكتشافات الغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط في المستقبل عن عائدات جديدة مهمة في المشرق. ويتعاظم استخلاص الغاز بسرعة في مصر، لكن حصة الفرد من عائدات الموارد الهيدروكربونية تتضاءل بوجود ما يقارب 100 مليون نسمة من السكان، بالمقارنة مع نظائرها الأكثر ثراء. بينما يحتل الإنتاج في الأردن والمغرب مرتبة هامشية.

ليس في لبنان وفلسطين إنتاج هيدروكربوني حالياً. وثمة صناعات لاستخلاص الطاقة في السودان وتونس، غير أنها على العموم متواضعة وآخذة بالتناقص. وتضم هذه الدول أكثر من نصف السكان في المنطقة، غير أنها تمثل ربع الناتج المحلي الإجمالي فيها. لكن على الرغم من تدني مستويات الموارد الهيدروكربونية، فإن النموذج الريعي يتغلغل في مرافق هذه الدول كذلك. وتتخذ الإيرادات أشكال عدة، بما فيها الاستثمارات الخليجية، وتحويلات العاملين في الخارج، وعطايا الموارد الطبيعية البديلة، مثل قناة السويس في مصر، والبوتاس في الأردن، والفوسفات في المغرب.

تُواجه كل دولة عربية تحديات فريدة من نوعها في بناء أطر إنتاجية مؤسسية. وسيكون من واجب كل دولة أن تجد مصادر مبتكرة للثروة والإنتاج مرتفع القيمة، وتحسّن من مستوى توزيع الموارد الاقتصادية، وتقيّم المؤسسات السياسية المناسبة. غير أن ثمة عناصر محددة مشتركة وواضحة. وإذا استثنينا تحويلات العاملين في الخارج، فإن تدفقات الدخل هذه تصب في خزينة الحكومات، التي تقوم من ثم بإعادة توزيعها على شبكات المحسوبية المحلية، من خلال الوظائف في القطاع العام، والعقود التفضيلية للمتنفذين السياسيين داخل النظام، أو الدعم المالي المباشر في بعض الحالات لشراء الولاء. كما أسفرت شبكات المحسوبية المتضخمة عن تفشي الفساد بصورة وبائية في الدولة. وفي تقرير منظمة الشفافية الدولية عن مؤشرات مدركات الفساد للعام 2017، احتلت ست عشرة دولة من الدول العربية العشرين التي شملها المسح مراتب أدنى من الوسط الحسابي العالمي، وهو 43 (على سلم يتراوح بين صفر ومئة).  وفي دراسة مسحية أجرتها مؤسسة كارنيغي في العام 2016، أعرب مائة من قادة الرأي العرب عن اعتقادهم بأن الفساد هو التحدي الثاني في المنطقة بعد النزعة السلطوية. وبما أنه من الصعوبة بمكان تحديد الفساد والاستئثار الاقتصادي كميا، فقد وجد البنك الدولي دلائل على أن الشركات التي تتمتّع بارتباطات سياسية تحظى بامتيازات خاصة.

 تمثّل البلدان الملكية الخليجية أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، على الرغم من أنها تضم 15 في المئة فقط من السكان. وقد مكّنها توافر عائدات النفط الهائلة، وقلة عدد السكان وربما الشرعية السياسية التي تفتقر إليها جمهوريات الحزب الواحد، تاريخيا. إلا أن انهيار أسعار النفط العام 2014 فرض ضغوطا وقيودا هائلة، ولاسيما في البحرين، وعُمان، والسعودية، التي ستجهد لاحقاً لمجاراة التزايد المطّرد في عدد السكان.

في حقبة الدول القومية الحديثة، كانت نماذج الاقتصاد السياسي الإقليمية تميل إلى التطور جنبا إلى جنب مع نماذج أخرى بالعالم أكثر نجاحا. إلى أن مصر والمملكة العربية السعودية، اللتين تمثّلان بين الدول العربية الاقتصادين الأضخم والأهم من الناحية الجيوسياسية، قد فشلتا في أن تصبح كل منهما قوة اقتصادية ديناميكية بحدّ ذاتها.  حيث لم تكن هناك وصفة وحيدة للنجاح الاقتصادي، كما جرى في جنوب شرق آسيا حيث في تلك البلدان التي استفادت من قربها الجغرافي من اليابان وبعدها عن الصين وتعاقبت عليها تشكيلة واسعة من الأنظمة السياسية. وشكلت رابطة دول جنوب شرق اسيا وابتعد ت عن الصراعات العسكرية فيما بينها.

الشرق الأوسط مقابل جنوب شرق آسيا:

دراسة حالة في التباين

في أوائل الستينيات من القرن الفائت، كان الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا يخوضان حرباً مريرة ضد موروث استعماري تمخض عن سلسلة من الحروب الإقليمية والانتفاضات المحلية. وفي كلتا المنطقتين، حاولت تلك الدول التغلّب على مستويات التنمية البشرية المتدنية بانتهاج نماذج حمائية للاستعاضة عن الواردات. كانت هناك أوجه شبه بين مصر، في عهد الضابط العسكري جمال عبد الناصر من جهة، وتايلند التي كان يرأسها كذلك ضابط عسكري سابق تسلّم مقاليد الحكم. وفي العام 1960، كان البلدان متماثليْن من حيث عدد السكان (27 مليون نسمة في كل منهما) وحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (631 دولاراً و571 دولاراً) غير أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تايلند تزايد وبلغ ضعف ما هو عليه في مصر. وقد كانت اليمن وفيتنام، وهما مجتمعان زراعيان دمرتهما عقود من الحرب الأهلية والانقسامات السياسية، تعتبران لمدة طويلة من أفقر الدول في هاتين المنطقتين. لكن فيتنام بدأت بهدوء خلال العقود الأخيرة مرحلة من الاستقرار والنمو، وارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها ثلاثة أضعاف منذ العام 1980، وبرزت كمركز إقليمي للصناعات التحويلية الإلكترونية. أما اليمن فقد انزلقت في تلك الأثناء إلى مهاوي البؤس، وتقلّص نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها إلى نصف ما كان عليه قبل أربعة عقود.

لم يتجاوز معدل النمو في حصة الفرد من نمو الناتج المحلي الإجمالي في أي بلد عربي ثلاثة في المئة خلال نصف القرن الماضي. في المقابل، لم يفشل في تحقيق ذلك بين دول جنوب شرق آسيا إلا بلدّان، أحدهما بروناي، وهي الدولة النفطية الوحيدة التي يسودها حكم ملكي مطلق، ويشبه اقتصادها إلى حد كبير اقتصاد الملكيات الخليجية أكثر مما يشبه اقتصاد الدول المجاورة لها. على الرغم من هذه التحديات، لا يخلو الشرق الأوسط من حالات النجاح السياسي والاقتصادي النسبي.

برزت الإمارات العربية المتحدة بوصفها الاقتصاد الأكثر ديناميكية في العالم العربي، وتتمتع بسمعة طيبة من حيث الفرص الاقتصادية والمحاسبة على أساس الجدارة والأعراف الاجتماعية الليبرالية نسبياً. وتنفرد الإمارات العربية المتحدة بين أنظمة الحكم الملكية في الخليج بأنها حققت تقدماً ملموساً في التنويع بعيداً عن الاعتماد الكلي على ريع الموارد الهيدروكربونية.

إن إقامة نماذج الاقتصاد السياسي العربية الناجحة ستتطلّب من القادة استثمارا مجديا في الفئات المهمّشة تقليديا، مثل الشباب والنساء. كما أن على هذه النماذج أن تخلق أطراً تنظيمية ترتكز على قواعد واضحة، وتتميّز بالإنصاف والشفافية وتشجّع وضع معايير جديدة للمحاسبة. ويتعيّن على كل نظام جديد أن يخلق الضوابط والموازين التي تخضع الساعين للتمتّع بالريع إلى المنافسة الحقيقية.

 [1] باحث في الشأن الاقتصادي /دمشق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *