الحلقة الرابعة والأخيرة
يوميات اجتياح العدو الإسرائيلي لبنان في حزيران من العام 1982، الذي وصل الى بيروت واخرج منظمة التحرير الى تونس وأدت تداعياته الى تطورات عديدة. هي ثاني عاصمة عربية يدخلها محتلا بعد القدس ولكنها اول عاصمة يخرج منها مهزوما بفعل ضربات المقاومة.
يقول روبرت فيسك في كتابه “ويلات وطن”:
«رأيت الجنود الإسرائيليين ينتزعون سلال الطعام من النساء اللواتي يعبرن إلى بيروت الغربية، ويلقون بمحتوياتها في أحد الخنادق… كما شاهدت مسلحًا كتائبيًا عند غاليري سمعان ينتزع زجاجتي ماء من امرأة مسنة، ويكسرها على الطريق. صاح الكتائبي “ك* أمك”
بينما كان الجنود الإسرائيليون يضحكون.»
بالجانب المحاصر من بيروت، وعند وصول القوات الغازية إلى محور خلدة، تيقن الجميع بأن معركة السيطرة على بيروت أصبحت وشيكة. فعززت القوات السورية والفلسطينية والقوى الوطنية تواجدها على خطوط التماس القديمة واستحدثت مواقع عسكرية جديدة في الأوزاعي والمطار. عُمل على تنظيم عمليات الدفاع وتفعيلها؛ وقد قسّمت المدينة إلى سبع قطاعات:
-قطاع ممتد من الحمام العسكري وينتهي في السمرلاند
-قطاع يبدأ من السمرلاند وينتهي عند الأوزاعي
-قطاع ممتد من الأوزاعي حتى منطقة الآثارات
-قطاع المدرج الغربي للمطار، مرورا بشركة T.M.A في الرمل العالي ويعتبر هذا القطاع من أخطر المحاور نتيجة طبيعته المكشوفة.
-قطاع يبدأ من المدرج الشرقي ويشمل برج البراجنة، حي السلم، الليلكي، الصفير، الشياح وينتهي عند مستديرة الطيونة.
-قطاع يشمل المنطقة الغربية من بيروت، يشمل الطيونة وينتهي عند الحمام العسكري مرورًا بالمتحف والسود يكو…
-القطاع السابع أطلق عليه تسمية منطقة المركز، ويبدأ من المطار نحو مستديرة السفارة الكويتية، نزولًا إلى الكولا حتى مستشفى بربير. وينعطف نحو قصقص ومقبرة الشهداء، وضمنًا مخيمي صبرا وشاتيلا وينتهي عند دوار المطار من جديد.
عُيّن لكل قطاع قائد وغرفة عمليات ذات صلاحيات واسعة، تتبع لها كل القوى المقاتلة المتواجدة ضمن جغرافيته، وتخضع القوى هذه لخطة قتال موحدة، متناسقة مع خطة الدفاع عن المدينة.
بقي خط التماس الفاصل بين شطري العاصمة، من مسؤولية جيش التحرير الفلسطيني التابع لأمرة القوات السورية، وتألفت قواته من لواءي حطين والقادسية. أما اللواء ٨٥ السوري بقيادة العميد محمد حلال الذي كان منتشرا في بيروت الغربية بقيت وحداته في موقعها.
سحبت راجمات الكاتيوشا المحمولة (ب.م٢١) من عيار ١٢٢ ملم ووحدات المدفعية من القطاعات وحولت إلى قوة دعم رئيسية، وتبين أثناء المعارك صوابيه هذا التدبير، بحيث تمت الاستفادة القصوى من طاقة النار الموحدة، كما حصل في المطار والمتحف. أما الراجمات الكورية (ب.م١٣) من عيار ١٠٧ ملم، ومدافع الهاون وضعت بتصرف قادة القطاعات.
سور الجيش الإسرائيلي المدينة المحاصرة وضاحيتها بأكثر من فرقتين مدرعتين. وقد روى فيسك مشاهداته عن الحشود العسكرية: “أثناء العودة من صيدا مع صديقي راندل مراسل الواشنطن بوست، التقينا بالقوات الإسرائيلية الزاحفة شمالًا… وجدنا قافلة بعثت في نفوسنا الاسوأ. والحقيقة لم تكن قافلة، بل طابور من دبابات مير كافا وسنتوريون على امتداد ١٥ ميل… بالمقابل يقول ياسر عرفات في “شؤون فلسطينية، عدد ١٣٦، آذار ١٩٨٣” إن عديد القوات المدافعة لم يتجاوز ال ٨ آلاف، بينما يتحدث العقيد ابو موسى عن تركيبة القوات قائلًا: “قواتنا العسكرية النظامية كلها خارج بيروت، قوات القسطل، الكرامة واليرموك، ولم يكن في المدينة سوى قوات الميلشيا.
هكذا كانت الحال، سواء بالنسبة إلى قوات التنظيمات الفلسطينية ام اللبنانية الوطنية.
بيروت، أم المعارك:
في أثناء الإعداد لغزو لبنان، تم الاتفاق بين الإسرائيليين وبين بشير الجميل على أن تكون مهمة “تنظيف” بيروت على عاتق القوات اللبنانية، على أن تتولى القوات الإسرائيلية عملية الدعم الناري. على الرغم من جموح شارون، كان يتهيب دخول العاصمة خصوصا أن إدارة ريغان لم تكن تجاريه في حربه إلى هذا الحد. كما أنه كان يخشى من حرب الشوارع، بمواجهة الآلاف من المدافعين الذين ضاقت الخيارات في وجههم. لهذين السببين طلب شارون من حلفائه الكتائبيين تنفيذ هذا الشق من الخطة المتعلق بالقضاء على “الإرهابيين”. لكنه سرعان ما لمس تردد بشير في تنفيذ الخطة التي قد تسد طموحه السياسي. هذا ما دفع شارون لنعت الكتائبيين “بالجبناء… مثل العرب”-زئيف شيف، ايهود يعاري، الحرب المضللة- كما أورد جوناثان راندل في كتابه حرب الألف سنة بأن الإسرائيليين أبدوا امتعاضهم من حلفائهم بوصفهم “جنود الشوكولا”. كما أورد في المرجع ذاته: لم يكن بشير يريد أن يظهر أمام العرب كمجرد عميل لإسرائيل وقيل حينها: “إن على إسرائيل أن تكتفي بما وفره “الغيتو “المسيحي لها من بنية تحتية في المؤخرة، وتحالف اعتمدت عليه لتبرير غزوها.”
وعندما ذكر شارون بأن بشير أصبح مستعدًا لإدخال قوة كبيرة من رجاله لاحتلال بيروت، سخر أمير دروري من هذا الكلام قائلًا “لم يستطيعوا احتلال قرية درزية فكيف تريدهم أن يهاجموا بيروت؟” -زئيف شيف، ايهود يعاري، الحرب المضللة، ص١٠١.
معركة كليّة العلوم:
لتخفيف الضغط الإسرائيلي، وافق بشير على مهاجمة كلية العلوم، لهذه الغاية التقى الموساد في لبنان، “أفنير آزولاي”، مع رئيس أركان القوات فادي افرام، واتفقا على تكليف رئيس العمليات في القوات فؤاد أبو ناضر بتنسيق المعركة مع الضباط الاسرائيليين. في ليل (١٥-١٦) حزيران تقدمت وحدات من القوات اللبنانية، تساندها قوة مدرعة إسرائيلية إلى مشارف كلية العلوم. وباشرت هجومها عند الفجر، في أعقاب تمهيد ناري من المدفعية الإسرائيلية، استهدف الكلية التي كان يتواجد بداخلها مقاتلون فلسطينيون ولبنانيون.
وبعد معركة دامت حتى حلول المساء، سيطرت القوات المهاجمة على الكلية وقد تكبدت عشرات الإصابات ودمرت آليات وشبت حرائق.
كان فادي افرام يتابع مع الضباط الإسرائيليين سير العملية من مدرسة الآباء الانطونيين، المشرفة على منطقة الاشتباكات. في اليوم التالي تفقد افرام مع ضباط العدو
مبنى الكلية وشاهدوا الدمار الذي لحق بها. واستعملوا مبنى الكلية فيما بعد، منصة لدباباته التي كانت تطلق نيران مدفعيتها على منازل المواطنين في الليلكي وحي السلم. إلا أن لم تثني كلية العلوم الإسرائيليين عن متابعة مطالبتهم القوات اللبنانية بمهاجمة مدينة بيروت.
سأُنهي سلسلة حلقات تأريخ الاجتياح اللبناني هنا، ليس لأن معركة اجتياح بيروت كانت الأخيرة، وليست لأنها الأكثر دموية… بل لأقف على حقيقة ربما لم يدركها أبناء جيلي الذين لم يعايشوا الاجتياح. من صوروا بأن مجزرة صبرا وشاتيلا كانت مجرد “رد فعل” لعناصر غير منضبطة، كما صوروا قبلها مجزرة تل الزعتر والكرنتينا والسبت الأسود وعينطورة وغيرها… من يرتدون قناع “السيادة” اللبنانية لإخفاء نهج العمالة والانبطاح لكل ما هو اسرائيلي، عند اجتياح لبنان لن يكونوا أكثر من “جنود شوكولا” بالنسبة إلى الإسرائيلي… مهما “كووا الزيتي” واستعدوا الى دخول الخنادق…