الطائفية وأخواتها هي كل نزعة سلطوية وعصبوية وفئوية تستغلّ الدين من أجل التعبئة والنفوذ، وبالتالي هي بعيدة من المثل الدينية وتعاليمها، لأنها نوع من التحزّب السياسي لأغراض دنيوية وهي تسخّر الدين وتستغلّه من أَجل تحقيق أهدافها وبرامجها الخاصّة. الطائفية في لبنان أصبحت نظاماً شمولياً يعمّ البنى السياسية والاجتماعية والثقافية. ليست الطائفية مجرّد عواطف ومشاعر تمتّ إلى البنية الفوقية وتزول بسهولة بمجرّد حصول تعديل أو تغيير أو إصلاح في البنية التحتية، كما يدّعي البعض. الطائفية – كالقبلية والعشائرية والعائلية والمذهبية والعرقية وغيرها من العصبيات الجزئية – هي جزء أساسي من بنية المجتمع وتاريخه وواقعه. الطائفية نمت وترسّخت استناداً إلى بنية تحتية تجذّرها في الواقع وتستمد قوتها من مناطق سكنية مغلقة لها أو تهيمن عليها، وعبر مؤسّسات اقتصادية وصحية وثقافية واجتماعية وغيرها، تحتكرها في العضوية والأهداف التي تعمل لها، وعبر شبكة الخدمات والمنافع والحماية والأمان، التي توفّرها إضافةً إلى السلطة المحلية والسلطة المركزية التي تشارك فيها.
الطائفية هي وسيلة لحماية سلطة أو طريق للوصول إلى السلطة، لذلك هي جزء أساسي من بنية السلطة والمجتمع إضافةً إلى سلوك ومشاعر وعواطف وعادات وتقاليد وثقافة الفرد الذي ينتمي إليها.
وما دامت الطائفة ظاهرة كلّية تشمل النطاق السياسي والنظام الاقتصادي التربوي الثقافي. لذلك، البديل من الطائفية هو نظام مدني يقدّم مفهوماً اجتماعياً جديداً يكون قادراً على مواجهة النظام الطائفي بكلّ أبعاده، وتغليب رابطة المواطنة والولاء للدولة على رابطة الانتماءات المحلّية. والبدائل التي طرحت ظلّت هامشية ونخبوية ولم تتمكّن من لعب دور فاعل في الدولة والمجتمع.
الطائفية ليست ظاهرة سطحية أو جزئية، بل هي ظاهرة اجتماعية كلّية تؤلّف نظاماً كاملاً له أسسه وأركانه ودعائمه في جميع قطاعات المجتمع.
أصبح الانتماء الطائفي ولاءً لكيان خاصّ، يضاف إليه امتداد الطوائف في غير دولة، ما أدّى إلى تداخل المصالح والاستقواء بخارج الكيان. وأصبح للطائفة سياسة خارجية متداخلة في مصالح الدول الإقليمية والدولية ونفوذها، ما جعل الطائفية قوّة سياسية بما لها من نفوذ داخلي وإقليمي ودولي.
كما ارتبطت مصالح الإقطاعية والرأسمالية والنفوذ الأجنبي بالواقع الطائفي. فغدت الطائفية وسيلة ونتيجة.
وقد استمدّت الطائفية قوّتها من تفكّك دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية داخل الدولة، وذلك نتيجة التخلّف والاقتصاد المخلع وغياب السوق الاجتماعية، فتكيّفت الرأسمالية والبنى الاقتصادية الريعية مع الواقع الطائفي وكرّسته.
ففي لبنان، أخفق النظام الرأسمالي في دمج الطوائف في حركة اجتماعية موحّدة، فبرزت مؤسّسات اقتصادية طائفية كالمصارف والشركات ومؤسسات صحية وخدماتية واجتماعية وأهلية للطوائف. وذلك نتيجة تعثّر خطط التنمية الشاملة في الريف والمدينة واستمرار التفاوت الطبقي، وتهميش فئات اجتماعية ومهنية وطبقية، ما جعل وحدة المجتمع متعثّرة تواجه انقسامات عمودية حادة غلّبت مصالح الطوائف على المصالح الوطنية والقومية وبدّلت أولويات الصراع. فبدلاً من مواجهة المخاطر الوجودية وتوحيد الصف لمواجهة أعداء الأمّة، أصبحت التناحرات الطائفية والمذهبية هي الأولوية.
نجحت الطائفية في لبنان في أن تكرّس كظاهرة اجتماعية لها جذور تاريخية عميقة تغذيها على جميع المستويات مرتكزات دستورية وقانونية وأسس اقتصادية وسياسية عامّة متناقضة، ما جعل الطائفية إيديولوجية الدولة والبنية السياسية الأساسية لها.
وهكذا أصبحت الطائفية مؤسسة مغلقة تستمد قوتها من تنظيمها الداخلي ووظيفتها العامة على حساب مؤسسات الدولة.
الطائفيةُ وأخواتُها ليستْ كتلةً تاريخيةً متماسكةً عبرَ الزمنِ. في حالاتِ الحروبِ والاستنفارِ الغرائزيّ تتمكّنُ السلطةُ الطائفية الدينيةُ والسياسيةُ من استنفارِ جمهورِها وتعبئةِ عناصِرها وطمسٍ مؤقّتٍ للتناقضاتِ الموجودةِ في داخِلها.
لذلك، القوى التقدّمية والعلمانية مدعوّةٌ إلى دراسةِ الطائفيةِ في ظرفِها الاجتماعي، وفي بنيتِها الداخليةِ، ما يظهرُ التناقضات الذاتيةَ السياسيةَ، والطبقيةَ، والعائليةَ، وغيرها. لذلك من أخطرِ المقولاتِ التي سادتْ في الحربِ الأهليةِ اللبنانيةِ مقولة الطائفية السياسية التي تنظرُ إلى الطوائفِ في لبنان وكأنها كلٌّ متماسكٌ في اتجاه انعزالي أو وطني واحد حسب موقعها، بينما الغوص في أعماق الطوائف يظهر التباين والتناقض الذي يساعد على إخراج الطائفة من انغلاقها وكانتونها.
امتداد الطوائف في غير دولة وكيان سياسي، أدّى إلى تداخل المصالح والاستقواء بالخارج. فأصبح للطائفة سياسة خارجية متداخلة مع مصالح الدول الإقليمية والدولية ونفوذها، ما جعل الطائفية قوة سياسية بما لها من نفوذ داخلي وإقليمي ودولي يمكن استغلاله في مواجهة الولاء للدولة.
هذا المأزق لا يمكن مواجهته إلا بإعادة الحسبان إلى الدولة المدنية الديموقراطية لتصبح أقدر على مواجهة الطائفية ومخاطرها في إشعال الفتن والحروب الأهلية المستمرة والمستدامة والدورية.
يا علمانيي لبنان اتحدوا… لننقذ لبنان من الطائفية، حتى لا يبقى وطننا فريسة للحروب الأهلية الدورية.