أوراق من يوميات اجتياح لبنان عام 1982

أوراق من يوميات اجتياح لبنان عام 1982

يوميات اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان في حزيران من العام 1982، الذي وصل الى بيروت واخرج منظمة التحرير الى تونس وادت تداعياته الى تطورات عديدة، هي ثاني عاصمة عربية يدخلها محتلا بعد القدس ولكنها اول عاصمة يخرج منها مهزوما بفعل ضربات المقاومة.

الحلقة الثالثة                                                                                             

إن منطقة خلدة عبارة عن شريط ساحلي ضيق، يحدها من الغرب البحر، ومن الشرق هضاب جبلية حرجية، تحولت فيما بعد إلى غابة من المباني، ومن الشمال منطقة الأوزاعي ومطار بيروت، أما جنوبًا فيحدها دوحة الحص، فيشكل مثلثها مفصل مواصلات هام.

‏كانت خلدة منطقة تعج بالفنادق والشاليهات والمسابح والمطاعم، لكن في أثناء الحرب الأهلية، وما نجم عنها من تهجير، اضطرت بعض العائلات إلى إقامة حي من بيوت الصفيح بمحاذاة الطريق الدولية. ونظرًا لقلة المباني السكنية فيها، لم تكن مؤهلة للصمود لوقت طويل، في وجه جيش يملك سلاح متفوق، ‏مع وصول طلائع الجيش الإسرائيلي إلى بلدة الدامور، بدأت الاستعدادات الفعلية لمعركة خلدة؛ فانتشرت قوات فلسطينية ولبنانية وطنية بالإضافة إلى وحدات من الجيش السوري.

‏اتخذت القوى الوطنية من مدينة الزهراء-الجامعة الإسلامية حاليًا-موقعًا لها، ‏وقد توزعت هذه القوى في المباني القليلة المنتشرة على الطريق القديم، قرب قصر المير مجيد أرسلان، وفي التلال الشرقية المشرفة على الطريق الرئيسي. وعملت على إقامة تحصينات أولية: تعبئة اكياس الرمل، بناء دشم، زرع عوائق. اقتصر تسليح المجموعات على البنادق والرشاشات الخفيفة ‏وقاذفات ال RBG وعدد محدود من مدافع ٦٠ ملم وال ٨٢ ملم.

‏اتخذت المجموعات من “سنتر سالم” وهو مبنى قيد الإنشاء يقع شمال خلدة مقابل “راديو أوريان” غرفة عمليات للمحور.

‏وفي إطار خطة الدفاع عن المدخل الجنوبي، تمركز الفوج ٨٧ من الوحدات الخاصة السورية، في التلال المشرفة على خلدة ‏كما تولى مسؤولية الدفاع عن المحور الشرقي الممتد من دوحة الحص حتى بلدة عرمون، لمنع القوات الإسرائيلية من خرقه والنفاذ إلى دير قوبل-الشويفات. مع بدأ الغزو، تم تعزير القوة السورية بسرية م/د مزودة بصواريخ مالوتكا، وسرية دبابات تابعة للواء ٨٥. ‏في أثناء التحضير لميدان المعركة، توزعت القوات المدافعة التابعة للقوات الفلسطينية والوطنية، من محيط مثلث خلدة-مسبح الفاميلي بيتش، وصولا إلى قصر أرسلان. كانت مهمة هذه الكمائن حماية الطريق الساحلي القديم-كانت حينها الطريق الدولية الرئيسية. وكان الأوتوستراد الحالي ينتهي عند دوحة الحص ‏كما تمركزت قوة من جيش التحرير بقيادة عبد الله صيام، في مباني المهجرين المنتشرة على الخط البحري.

‏أدرك المدافعون الأهمية الاستراتيجية للمنطقة كونها تشكل عقدة مواصلات-انظر للخريطة، ويؤدي سقوطها إلى تشريع الأبواب أمام الجيش الغازي.

‏في الساعة الخامسة من عصر الأربعاء ٩ حزيران، تقدمت أرتال من اللواء المدرع الأول بقيادة العقيد “يلي غيبع”، مندفعة من منطقة الناعمة باتجاه خلدة، سالكة الطريق الساحلية المحاذية للشاطئ. لم يواجه في البداية الإسرائيليون أي مقاومة رغم مرورهم بالكمائن المنصوبة على الجنبين، ‏وكان هذا التدبير جزء من خطة المعركة.

‏لكن عند وصول الكتيبة المدرعة الأولى إلى منعطف يؤدي نحو الشرق، تحديدا على بعد ٣ كلم من الناعمة، انصبت حمم الصواريخ وقذائف ال RBG عليها، من كل الاتجاهات، فكانت النار تطلق دفعة واحدة من كل الكمائن على الآليات الإسرائيلية.

‏في الوقت ذاته، كان الجنود السوريون يتصدون بواسطة المالوتكا والقاذفات المضادة للدروع للقوات المتقدمة نحو الأوتوستراد.

‏ولتفادي النيران المنصبة، حاولت الدبابات الإسرائيلية العودة باتجاه الطريق القديم، لكن هول المفاجأة وكثافة النار، سمرتها في مكانها.

‏نجحت القوات السورية بتدمير دبابتين على الطريق الجديد، اشتعلت النيران فيهما، وسدت المنفذ أمام الآليات المنسحبة. وفي أثناء محاولة رتل مم الدبابات سحب الآليات المصابة، نجح المدافعون عن المحور بضرب دبابتين أخريين. لكن العدو لم يكل، حيث تقدمت دبابتين من مؤخرة الطابور ‏تؤازرهما قوة من المشاة، في محاولة جديدة، لإبعاد الآليات المدمرة وفتح الطريق؛ سرعان ما تعامل المدافعون معهما فأحرقوا واحدة وتراجعت الأخرى. في حين حوصر رجال المشاة بنيران الأسلحة الفردية والمتوسطة، فعمدوا إلى الاختباء بجانب الآليات المدمرة حتى حلول الظلام.

‏على الطريق القديمة تقدم طابور مدرع نحو مباني المهجرين للاستيلاء عليها، لكنه اصطدم بالكمائن المنصوبة وأصيبت بضع آليات أخرى. كما أصيبت دبابتين من طراز “باتون” أمام الشاليهات، حيث يسكن مواطنون من عرب “اللهيب” وبقيت هاتان في مكانهما الى حين دخول الإسرائيليين المنطقة واحتلالها.

‏بالقرب من مدينة الزهراء، دارت مواجهة عنيفة بين المجموعات المنتشرة وبين قوة محمولة مؤلفة من ست ملالات من طراز M-113، كان قد تم انزالها عصر ذاك اليوم بين مسبحي الكنغارى وال فاميلي بيتش-مجلة الفكر الاستراتيجي يوميات الغزو، عدد ٩، ص٥٢١-

‏يبدو أن الهدف من الإنزال كان السيطرة على المباني القريبة، وإبعاد رماة ال RBG.

‏تفاجأت القوة الإسرائيلية بشراسة المدافعين، إلى أن رامي ال ١٢.٧ ملم القابع في برج إحدى الملالات وقع أرضًا من جراء توقفها السريع. وتحول إلى هدف، فأصيب بأكثر من طلقة.

‏ازداد ارتباك العدو، بعد إصابة إحدى الملالات واحتراقها، بالقرب من المدخل الرئيسي. على الأثر بدأت القوة بالتراجع إلى الخلف، لكن إحدى المقاتلين عاجلها بقذيفة B7، فاشتعلت النيران فيها. حاول سائقها الخروج عن الطريق والاحتماء ودخل إلى مصنع بويا (ديفو)، لكن انفجرت الملالة واحترق. ‏استدارت إحدى الملالات حول ذاتها، ففتح الباب الخلفي، عندها قام أحد المقاتلين بضربها قذيفة عن سطح مبنى منخفض، فدخلت من خلاله وانفجرت فيها، فقتل على الفور افراد طاقمها. في حين تركت ملالة سليمة في وسط الشارع لم ينطفىء محركها، بعدما لاذ أفراد طاقمها بالفرار، وقد تم الاستيلاء عليها.

‏تراجعت باقي القوة الإسرائيلية نحو بلدة الناعمة تحت غطاء كثيف من سلاحي المدفعية والبحرية. عجز الطيران الحربي عن تقديم الدعم المباشر، نتيجة تلاحم المتحاربين.

‏يصف العقيد في حركة فتح “أبو الطيب” تلك المعركة قائلًا: «كان العدو في حيرة من أمره، حيث أعطبت له دبابتان، ‏مقابل مدينة الزهراء، بالقرب من قصر مجيد ارسلان. وكان المقاتلون يسمعون صوت جنود العدو وهي تتعالى تطلب النجدة- العقيد أبو الطيب، زلزال بيروت، ص١٢٨-

‏في أثناء سير المعركة وصل نائب رئيس الأركان لشؤون العمليات الجنرال يكوتئيل آدم إلى المنطقة الفاصلة بين الناعمة وخلدة ‏راقب المعارك على الجبهة بالمنظار، كان بعض المسلحين المتخفين في بناء مهدم يرصدونه، ففتحوا النار على سيارته العسكرية فقتل على الفور مع الجنرال هاييم سيلع والعقيد أليعرز أتغار، والعقيد بينامين إيرلينغ، أما الجنرال أهارون تسادوق بترت ساقه-الان مينارع-اسرار حرب لبنان،ص٢٣٤ ‏يتحدث احد الضباط الإسرائيليين الدين شاركوا في القتال قائلاً:« أما بالنسبة للجنود الذين كانوا قد تنشقوا نسيم البحر على طول الطريق الساحلي، ولمدة أربعة أيام بدون مقاومة تذكر، والذين اعتقدوا أن بقية المشوار ستكون على هذا النحو؛ كان الكمين المخطط له جيدا بالمرصاد‏ حيث انصبت نيرانه الكثيفة كصاعقة مروعة -احمد سيف وعوض خليل، الحرب الطويلة، ص ٥٨.

لم تشكل معركة خلدة مفصلًا هامًا بسير عملية الاجتياح فحسب، بل كانت حجرًا اساسيًا في سرديتنا عن الدفاع! فكما ميسلون، المعركة التي سجل فيها السوريون موقفهم للتاريخ بأنكم لن تدخلوا دمشق دون قتال، كانت خلدة حيث مزج دم اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين معلنين أنه لن يكون احتلال بيروت نُزهة، وهو ما سنتطرق له في العدد القادم.