مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية والتوراة من القرون الوسطى الى نشـأة الصهيونية – الحلقة الثانية

مصالح أوروبا الاستعمارية واليهود القومية والتوراة من القرون الوسطى الى نشـأة الصهيونية – الحلقة الثانية

الحلقة الثانية

في 1868 ومن بعدها بين 1874 و1880 تولى بنجامين دزرا يلي (7) منصب رئيس الوزراء. والد بنجامين كان يهوديا إيطاليا، اعتنق المسيحية عندما كان ابنه في الثالثة عشر من عمره. فتلقى بنجامين نشأة مسيحية إلا أن أصوله اليهودية تركت آثارها على شخصيته وتفكيره. في عام 1877 هيأ دزرائيلي الجو لعرض مسألة توطين اليهود في فلسطين أمام اﻟﻤﺠتمعين في مؤتمر برلين في 1878 فنشر “مذكرة بعنوان “المسالة اليهودية في المسألة الشرقية”، وكانت هذه المذكرة لا تدعو لتوطين اليهود في فلسطين فحسب، وإنما تدعو أيضا إلى إقامة دولة يهودية تتولى بريطانيا حمايتها والإشراف عليها”.(4)

اليهود من اليهودية الحاخامية التقليدية الى اليهودية القومية

اليهود من جهتهم وبعد طردهم في القرن الأول من فلسطين (شلومو ساند مؤلف كتاب “اختراع الشعب اليهودي” يقول ان الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل) حاولوا بدون جدوى في القرون الخمسة الأولى ’العودة‘ الى ارض ‘بني إسرائيل‘ واهم تحركاتهم كانت حركة موزس الكريتي (موسى من تكريت) في 448 الذي ادعى انه المسيح.  بعد ذلك ولمدة 10-11 قرن لم تحصل أي محاولة مهمة نذكر وسبب عدم حماسهم او عدم سعيهم ’للعودة‘ تعود بعض جذوره الى المفاهيم الدينية لما يطلق عليه اليهودية “الحاخامية” او “التقليدية” التي كانت سائدة بين القرن التاسع والقرن التاسع العشر قبل تعاظم نفود “اليهودية القومية” المتمثلة بالحركة الصهيونية. أهم مفاهيم اليهودية التقليدية كما يشرحها الكاتب يعقوب رابكن في كتابه “ما هي إسرائيل الحديثة؛What is Modern Israel “ (5) هي التالية:

  1.  علاقة اليهودي بارض ‘إسرائيل‘ تختلف نوعيا عن علاقة الفرنسي بفرنسا او الروسي بروسيا. ‘القومية‘ اليهودية مختلفة عن كل القوميات الأخرى بانها قومية روحية أساسها التوراة وكل من لا يعترف بها كذلك، ينقض أسس اليهودية، حسب الحاخام جهيل يعقوب وينبرج.
  2. ‘ارض إسرائيل‘ يمكن ان تُأخذ فقط عبر التأثير العام للأعمال الصالحة التي تتجلى ذروتها بعودة المسيح. بعكس غزو يشوع بن نون لارض كنعان او ‘عودة‘ البعض من بابل الذين تمّ بفعل قوى أرضية (الانسان)، العودة النهائية ستكون فقط من صنع الله.  
  3. المنفى او الشتات في اليهودية التقليدية هي “حالة روحية غير مكتملة” او “حالة من فقدان التواصل مع الوجود الإلهي” وليست غربة او بعد عن ارض ‘اسرائيل‘.

مع ان اليهودية الحاخامية كانت الأكثر شيوعا بين اليهود في ’بلاد الشتات‘ لأوائل القرن العشرين فهذا لم يمنع بروز التوجه القومي عند بعض اليهود الذي كان يؤمن بحرفية الوعد الإلهي ويبرر أي محاولة ’إنسانية‘ للعودة من فترة لفترة. أبرز هذه الحركات حركة الحاخام شبطاي تسفي(6) الذي ولد في 1626 في أزمير العثمانية من اب يهودي خزري كان قد طرد من اسبانيا في 1492 عندما سيطر عليها الكاثوليك.  تسفي ادّعى انه المسيح المخلص في 1648 وانه سيقود اليهود الى ارض الميعاد وزار القدس في 1665 فأيده يهود أزمير وغيرهم وحاربه يهود محافظون آخرون والحاخامات الرسميون ومنهم حاخامات القدس. في 1666 القت الدولة العثمانية القبض عليه وسجنته بتهمة بث الفتنة وإفساد الديانة اليهودية وادّعاء النبوة وبعدها خيرته بين الإعدام او اعتناق الإسلام، فاختار الإسلام (ظاهريا) وتبعه حوالي 300 من اتباعه الذين عرفوا في ما بعد ب”الدونمة” الذين لعبوا دورا مهما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في تمهيد وتسهيل استيطان اليهود لفلسطين.

من الدعوات الأخرى دعوة الحاخام يهودا القالي (1798-1878) من سراييفو إلى عودة اليهود إلى الأرض المقدسة وبشكل تدريجي متأن حتى يتم إعداد الأرض وتحضيرها، وحديث الحاخام زيفي هيش كاليشر (1795-1874) من بروسيا عن الاستيطان الزراعي في فلسطين في كتابه ”البحث عن صهيون“ في عام 1862، ونشر الألماني موزس هس (1812-1875)، الذي كان مقربا من كارل ماركس، لكتابه ”روما والقدس“ ويعتبر واضع الأساس الفلسفي للصهيونية.

آخر هذه المحاولات واهمها قبل تأسيس الحركة الصهيونية كانت حركة “أحباء صهيون” التي اسسها البولندي ليون بنسكر (1821-1891) في 1882 ودعمها ماديا الملياردير اليهودي ادموند جيمس دي روتشيلد وساعدها يهود ’الدونمة‘ الاتراك على الاستيطان في فلسطين. هذه الحركة وصلت الى احد أهدافها في الحد من اندماج اليهود في مجتمعات الدول لكنها فشلت نسبيا في تنظيم عودة مكثفة الى ‘صهيون‘ إذ لم تستطع الا تهجير 20- 30 ألف بين 1882 و1903 الى فلسطين، في الوقت الذي هاجر فيه اكثر نصف مليون يهودي من شرق اوروبا إلى الولايات المتحدة. من أسباب فشلها هو ان معظم الهجرة كانت لأسباب اقتصادية وليس دينية، وسياسة الاعتماد على الموارد الذاتية المالية من روتشيلد وغيره الغير-كافية، ولكن أهمها هو عدم التماهي مع الأهداف الغربية الاستعمارية.(2)

تأسيس الصهيونية ووعد بلفور

في 1897 حُلت معضلة ’الحلقة اليهودية الضائعة‘ المتماهية مع الأهداف الغربية الاستعمارية بتأسيس الحركة الصهيونية اليهودية على يد الصحافي النمساوي ثيودور هرتزل الذي تلقفه الانكليز وقدموا له الدعم في كل المجالات. أحد الذين لعبوا دورا مهما في هذه المجال هو ملحق السفارة البريطانية في فيينا، القس وليم هشلر الذي رافق هرتزل على طول الطريق من البداية الى النهاية ولولا مساعدة هشلر له وخاصة في البداية وتامين اتصالات ولقاءات له مع قادة أوروبا لكان هرتزل تخلى عن مشروعه، حسب نائب حاكم القدس ومدون سيرة هرتزل في الستينات من القرن الماضي، اندريه شوروكوي، الذي وصف علاقة هشلر “الفضولية” بهرتزل كعلاقة “نبي” ألْهم “أمير” في مشروعه لخلاص اليهود.

الجدير بالذكر ان الحماس والدعم الأوروبي للحركة الصهيونية لم يقابله اقبالا يهوديا كبيرا بين الجماعات الاصلاحية والدينية على حد سواء. الحركة الإصلاحية اليهودية (النيولوج) التي بدأت في ألمانيا في العام 1840 وطالبت باندماج الأقليات اليهودية كليا في ألمانيا، بما يشمل تغيير لغة العبادة من العبرية إلى لغة البلد، وحذف كلمة “القدس” من كل الصلوات، رفضوا الصهيونية لانهم لم ينظروا الى اليهود كقومية وشعب وإنما كأقلية دينية. من جهتهم، “الاتقياء” الأرثوذكس، اتباع الحاخامية اليهودية التقليدية والاقوى في ذلك الحين، رفضوا الصهيونية أيضا على اعتبار ان علاقة اليهود بارض الميعاد هي علاقة روحية وعودتهم اليها وخلاصهم لا يتمان الا بعد عودة المسيح (الماشيح)، وعلى اعتبار ان أي محاولة بشرية لإنشاء مملكة يهودية إنما هي شذوذ وخيانة لمعنى الوعد. الجدير بالذكر ان هؤلاء الحاخاميين اجبروا “هرتزل” في عام 1897 على تغيير مكان المؤتمر الصهيوني الأول من “ميونخ” إلى “بازل”، وأصدروا بيان مناهض للصهيونية عقب المؤتمر.(2)

كل هذه التحركات الدينية والسياسية البريطانية بدأت تصل الى خواتيمها في بداية القرن العشرين بجعل الوطن القومي اليهودي استراتيجية إنكليزية ثابتة. اهم هذه الخطوات كانت مؤتمر 1907 الذي دعى اليه كامبل بنرمان، رئيس وزراء بريطانيا، وحضرته سبع دول أوروبية ورغم عدم التثبت من وثيقة “هنري كامبل بنرمان” فالمتداول ان الوثيقة تدعو الى زرع ’كيان عازل‘ في العالم العربي يكون ولاؤه للغرب ويفصل المشرق عن المغرب. الخطوة التالية كانت معاهدة سايكس-بيكو الانكليزية الفرنسية في 1916 التي قسمت سوريا الطبيعة الى كيانات ووزعت النفود بين البلدين وتلتها خطوة علنية مهمة وهي رسالة من اللورد آرثر بلفور، رئيس الوزراء البريطاني، الى اللورد والتر روتشيلد في 2 نشرين الثاني 1917 قال له فيها ” تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية …” والتي عرفت بوعد بلفور. رغم الدور الكبير الذي لعبه قادة الحركة الصهيونية أمثال حاييم وايزمان وناحوم سوكولوف واللورد روتشيلد في اعلان هذا الوعد وفي قبول الحلفاء كفرنسا وأميركا والفاتيكان به، فهو لم يكن وليدة ساعته(8) بل انعكاس لاستراتيجية بريطانيا في المشرق التي تبلورت من 1840 على يد هنري بالمرستون ومن ثم بنجامين دزرائيلي واستمرت الى هنري بنرمان ووصلت الى آرثر بلفور، وعمادها انشاء دولة يهودية في فلسطين تتولى بريطانيا حمايتها والاشراف عليها.

 المشروع الاستعماري الاستيطاني والتبرير الديني ودور اليهود

عند وجود المشروع السياسي الاستعماري هو غالبا ما يحتاج الى تبرير ديني يعطيه ’القدسية‘ اللازمة لكي يتلقى الدعم الشعبي المطلوب. في حال عدم وجود نص ديني صريح لتبرير الحروب وتجييش عامة الشعب، فهم اما يؤولون النصوص على هواهم، كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية في تبرير الحروب الصليبية على سوريا في 1095 عندما خلق البابا المبررات لاستعادة الأراضي المقدسة رغم خلو الانجيل (قبل جمع التوراة والانجيل في كتاب واحد) من أي نص يقول بملكية الأرض او وجوب استعادتها، او يُبدّلون النصوص لكي تتناسب مع المشروع، كما فعل البروتستانت البيوريتانيين (Puritans) عندما بدلوا النص الديني التوراتي فاعتبروا ان الأرض الجديدة هي ارض الميعاد وسكانها هم الكنعانيون واستعملوا ما جاء في التوراة لتبرير ابادتهم لشعوب الأرض الجديدة التي ليس لها أي علاقة ب’العهد القديم‘ من الكتاب المقدس.(2)

 مع ان المصالح البريطانية التقت مع مصالح القوميين اليهود في بناء وطن قومي يهودي في فلسطين، فالمشروع أساسه استعماري بريطاني ووَجد في الوعد الإلهي ضالته ووظف اليهود لخدمة هذا المشروع.  ومنع قيام أي نهضة في سوريا الطبيعية او قيام جبهة عربية متراصة. ان قلة المحاولات اليهودية الجدية وضعفها لتنفيذ الوعد الإلهي على مدى 2000 عام تقريبا هو خير دليل على ذلك. ان حركات ونشاطات المسيحية الانجيلية الصهيونية المكثفة منذ بداية القرن السابع عشر وحركات ودعوات اليهود القوميين للاستيطان وتوظيف الأموال اليهودية لاحقا في أواخر القرن التاسع عشر لم تكن لتعطي أي نتيجة لولا تماهيها مع هذا المشروع البريطاني.

من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل الوعد الإلهي في التوراة للاستيلاء على مناطق شاسعة من أرضنا فهو يبقى غب الطلب لكل من يريد تبرير محاربتنا في ديننا وأرضنا. لذلك اذا نظرنا الى الموضوع بشكل يعطيه قيمته وتأثيره العملي ضد امتنا، فمواجهته تكون أولا بعدم اغفال تأويلات وتفسيرات بعض الطوائف اليهودية والمسيحية والإسلامية التي تنأى بنفسها عن محاربتنا وبذلك تلغي مفاعيل الوعد السلبية عمليا، وثانيا بعدم تجاهل الضرر الحاصل من جمع العهد القديم والعهد الجديد في كتاب مسيحي مقدس واحد فهذا، كما ذكر أنطون سعادة، “يُوجد تأييداً له (الشعب المختار) في محاولته الجديدة للاستيلاء على بلاد السوريين التي «وعده يهوه» أن يعطيه إياها ملكاً خاصاً به”(10). المواجهة الثقافية تكون بابراز حقيقة أن المسيح لم يأتي ليكمل ما سبقه عليه “اسلافه” العبرانيين بل ليصححه عبر رسالة خير ومحبة لكل البشرية(2)، ليس فيها شعب مختار ولا ارض موعودة، ولهذا لا يصح ربط الانجيل بالتوراة. كذلك يجب الاعتماد على العلوم الأنثروبولوجية والطبيعية والتاريخية الحديثة التي تنفي الاساطير والروايات التوراتية وتنسف الوعد من أساسه.

راجي سعد

تورنتو، كندا

المصادر;