تسعى مؤسسات المجتمع المدني في الدول الديموقراطية وخاصةً في الغرب إلى تحقيق أعلى نسبة مشاركة وإهتمام للمواطنين في قضايا الشأن العام المحلي والعالمي.
أدت عمليات الجيش الإٍسرائيلي الوحشية في فلسطين بعد أحداث السابع من تشرين 2023، إلى تفجر ردات الفعل التي تدين أعمال الاحتلال وتتضامن مع القضية الفلسطينية في أنحاء العالم وبخاصةً في الدول الغربية وتوزع الناشطين على مجموعات منها ما ينظم الندوات والمظاهرات وأخرى تجمع التبرعات لأهل غزة ومنها يدعو إلى مقاطعة منتجات المؤسسات الداعمة لجيش الاحتلال الصهيوني، وأغلبها شركات عالمية منها ما قدم تبرعات عينية مجانية وسريعة لجيش الاحتلال كبادرة تضامن ورفع للمعنويات سواء كانت وجبات طعام، مشروبات، حلويات، تنظيف ثياب الجنود عبر توفير غسالات وأدوية تنظيف .. ناهيك عن التبرعات المالية المنظمة من عوائد أرباحها لدولة الاحتلال وجيشها…. بشكل عام كثيرة هي الشركات العالمية والتي تنتج مئات السلع والخدمات فمنها ما يملكها صهاينة وأخرى تعمل وفق توجيه سياسي متألف مع سياسات الأنظمة الغربية الصديقة لإٍسرائيل. فصار المشهد عموماً وبخاصة في الغرب، تيار عريض متضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه والذي يعتمد وسائل التعبير السلمي من تظاهرات وندوات وحملات دعائية إلكترونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويشهر سلاح المقاطعة، وتيار مؤيد للصهيونية إما جهلاً وعناداً أو إنتماءً ومصلحة سياسية وقد حاولوا تنظيم تحركات مضادة في الشارع، ولكنها كانت باهتة، إلا أنهم يتحكمون في وسائل الإعلام التقليدي والكثير من مساحة الفضاء الإلكتروني.
أما في لبنان، الوطن ذي المجتمع المتنوع الاتجاهات والآراء السياسية والثقافية وتعدديته المنقسمة على ذاتها أفقياً تارةً وعامودياً تارة أخرى، اجتمعت تلك التعددية بكافة إتجاهاتها على تأييد الشعب الفلسطيني، ولكنها إنقسمت حول وسيلة دعم الفلسطينيين أو رد التحدي للصهاينة الذين يحتلون حتى اليوم مساحةً كبيرة من الأراضي اللبنانية والتي لا يوجد خلاف على لبنانية معظمها.
إنقسم اللبنانيون بين مؤيد وداعي للمقاطعة وآخرين رافضين للمقاطعة، بمعظمهم لإعتبارات إقتصادية وإستهلاكية وأقلية نسبية منهم لإعتبارات سياسية، ولكل طرف حججه فالمؤيد لها يبرز إيجابياتها والمعارض يتذرع بسلبياتها، ولسنا بوارد الإنجرار للمقارنة التقليدية بين إيجابيات وسلبيات المقاطعة، فهي سلاح سلمي مشروع تستخدمه الدول أحياناً وفي معظم الأحيان الشعوب لتساهم في مواجهة العدو، فمبرر المقاطعة المبدأي موجود، هذه الشركات تبيع منتجاتها في لبنان وتقدم جزءً من أرباحها لدعم العدو ليمارس سياساته العدوانية علينا وعلى الشعب الفلسطيني، فكيف أساهم في تمويل من يريد قتلي عاجلاً أم آجلاً عبر إٍستسهال شراء منتجات تلك الشركات!!
يتذرع معارضو المقاطعة بعدم جدواها أو عدم وجود البديل أو إنخفاض جودة البديل ومخاطر مقاطعة المؤسسات اللبنانية التي توزع أو تنتج منتجات أجنبية – تعود لتلك الشركات- والتي تساهم في توظيف عدد كبير من اللبنانيين ولحماية ما تبقى من دورة الاقتصاد الشرعي وآخرين يتذرعون من باب الوفاء والعلاقة مع أصحاب هذه الإمتيازات أو بعضهم، وسنناقش كل نقطة منها،
في جدوى المقاطعة، هي مثبتة، حيث كلما إزداد حجم المقاطعة كلما تراجعت أرباح تلك الشركات ومعها تراجعت قدرتها على دعم أعدائنا، وأي تقليل من أهمية ذلك هو عناد لا يمكن تبريره.
أما القول في عدم وجود البديل أو البديل ذي الجودة المقبولة، هو مبالغة محضة، حيث يوجد الكثير من السلع البديلة وقسم كبير منها منتجات وطنية بالكامل، كل ما على المستهلك هو البحث عن تلك السلع في المحلات وخلق طلب عليها في محل البقالة أو المتجر المخصص الذي سرعان ما سيتبرع بتأمينها لك بأفضل الأسعار، الأمر الذي سيؤدي إلى إزدهار شركات وطنية لا تقل في وطنيتها عن الشركات التي تنتج سلعاً أجنبية، وأيضاً ستوفر المزيد من فرص العمل للبنانيين، وستجبر المؤسسات الصناعية على تحسين نوعية الإنتاج وبالتالي المزيد من المنتجات البديلة، علماً أننا نقر بعدم وجود بديل أو بديل جدي للكثير من المنتجات التكنولوجية أو الأدوية وربما بعض المأكولات الغربية ، وليس من المطلوب التركيز على مقاطعتها لأعود لهذه النقطة في نهاية المقالة.
أما الشركات اللبنانية والتي تمتلك إمتيازات إنتاج سلعٍ أجنبية، هي مؤسسات يجب حمايتها ولكن ليس على حساب المصلحة الوطنية ومقتضيات الأمن القومي، ومن الواجب تشجيعها على تحسين شروط الإمتياز الذي تملك أو الحصول على إمتياز جديد لا يتعارض مع الشعور والمصلحة الوطنية، فتورط مؤسسات في حملات دعائية إستفزازية تحت ذريعة أنه صادر عن الشركة الأم وليس للشركة اللبنانية أي دورٍ فيه يجعلها هدفاً مميزاً للمقاطعة، ولا يكفي التذرع بأنها توظف مئات أو الالاف العمال وتؤمن رواتبهم فهذا واجبها الأساسي تجاه من يعمل لينتج لتبيع وتربح هو ثمن الجهد البشري اللازم لتحقيق الإنتاج، أو أنها تدفع الضرائب فهذا واجبها القانوني نظير إستفادتها من الخدمات العامة التي تؤمنها الدولة من أمن ونظافة وتراخيص وكلفة أثر بيئي.
إن نشر ثقافة المقاطعة، هي وسيلة الشعب الأعزل في الدفاع عن نفسه وعن حقه في إقتصاد منتج، ومنع تحقق المزيد من المآسي في حقه وفي الشعوب المظلومة من سياسات دول عمياء لا تقيم للحق وزناً، وهي دافع لخلق طلب على منتج جيد النوعية، سرعان ما ستتكفل آليات السوق بتأمينه، أو خلقه عبر الإستثمار، أو رفع المنشأة من جودة سلعتها نتيجة إرتفاع الطلب عليها.
لذلك فإن المقاطعة في هذه المرحلة هي مسار طبيعي لتطور الوعي الوطني وإهتمامه بقضايا الشأن العام وتعبير عن الحاجة الوطنية إلى إقتصاد منتج أقل إعتماداً على الإستيراد، ولوقف تمويل العدو بشكلٍ غير مباشر عبر الإستهلاك غيرالواعي لمآل الأمور، ولا يعني نشر ثقافة المقاطعة، التغاضي عن مصلحة الفرد والجماعة، بل هي فعل واعي وإنتقائي يهدف إلى الموائمة بين المصلحتين الفردية والجماعية، الآنية والمستقبلية، وليس المطلوب أن تقاطع كل شيء بل من المهم أن تقاطع ولو لسلعة واحدة على الأقل، لتؤدي خدمةً جليلة لإقتصاد وطنك وللحفاظ على سلامته وتضامناً مع الحق الإنساني في فلسطين.