الحضور اليهودي في التاريخ التركي

لم يكن صعود أردوغان ومثله الغنوشي وجماعات الإسلام الأطلسي انطلاقاً من مباركة (الآيباك) اليهودي وتطويبه (غير المقدس) لهم بعيداً عن البصمات اليهودية التي طبعت التاريخ التركي بمجمله، كما جعلت من الإسلام الأطلسي عموماً صناعة يهودية بقدر ما هو صناعة بريطانية – أمريكية وفق ما يؤكد الكاتب البريطاني، ماركس كورتيس في كتابه (التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين).
وقد مر هذا التاريخ في محطات عديدة، أهما:

  1. الجذر الطوراني التركي، ويعود إلى خليط من المرجعيات، أضعفها (المرجعية التركية) وأكثرها حضوراً المرجعية اليهودية مثل تكين الب (الاسم الحقيقي ألبرت كوهين) وخالدة أديب صاحبة كتاب (طوران الجديدة) وذلك بحسب كتاب الدكتور صالح زهر الدين (الخطر التركي).
  2. محطة القبائل التركية الخزرية، فكان تهوّد هذه القبائل هو أول حضور للأتراك على مسرح التاريخ السياسي، فمع تحول طرق التجارة شمالاً وازدهارها حول بحر الخزر، ازدهر دور القبائل التركية الخزرية التي قرر ملكها بولان نهاية القرن السابع تهويد هذه القبائل في مواجهة القسطنطينية الأرثوذكسية والدولة الإسلامية (تهوّد شبيه بتحول مملكة حمير اليمنية إلى اليهودية مع تحول طرق التجارة جنوباً). ومن المصادر ذات الصلة للمهتمين سيرة قسطنطين، رحلة ابن فضلان، فيلم المحارب الثالث عشر، مسلسل سقف العالم لنجدت أنزور، كتاب المؤرخ اليهودي كوستلر (إمبراطورية الخزر) وكتابات بنيامين فريدمان، وكتاب جمال حمدان (اليهود أنثروبولوجيا). وقد سقطت إمبراطورية الخزر على يدج المغول وأمراء روسيا وتشتت أهلها في أوروبا (الأشكنازيم لاحقاً) الذين حاول ستالين إقامة حكم ذاتي لهم في بيرو أبيدجان 1928.
  3. محطة يهود الأندلس الهاربين أو (المارانو) الذين تدفقوا على اسطنبول وكرروا الدور الذي لعبوه في إشبيلية وطليطلة وغيرهما وصاروا أسياد البلاط والمال العثماني.
  4. محطة دور اليهود في إقامة علاقة بين مملكة القسطنطينية الأرثوذكسية وبين قبيلة القايي بزعامة سليمان شاه، ثم أرطغرل لمواجهة فرسان الصليب المقدس الكاثوليك خلال الحملات الصليبية، التي قتلت من اليهود والأرثوذكس أكثر من المسليمن. وقد وافقت فيها القبيلة التركية على دعم القسطنطينية مقال منحها أراضي في بورصة وغيرها، وأسست لاستيلاء القبائل التركية الغازية القادمة من آسيا الوسطى على تركيا الحالية.
  5. محطة الدونمة (اليهود المتأسلمون شكلاً) والذين يشبهون يهود المارانوا (اليهود المتمسحون شكلاً) وقد لعب الدونمة (أتباع سبتاي) دوراً كبيراً في الحياة السياسية والاقتصادية التركية وقدموا وزراء وقادة ثبت أنهم (يهود في الباطن) ولا يزالون يمارسون الدور نفسه، حتى الآن وداخل كل التيارات وعلى رأسها التيارات الإسلامية، ومنهم أيضاً عدد من الأتراك المتأسملين الذين تسللوا إلى بلدان ومناطق عربية خلال فترة استعمارها.
  6. الموجة التي أعقبت تحالف فرنسا مع تركيا باسم تحالف الهلال مع الزنبقة وكانت الأخيرة من رموز الماسونية الزرقاء، وذلك في ذروة الحكم السلطاني وقبل حزب الاتحاد والترقي بقرون.
  7. الدعم التركي السلطاني ليهود المشرق وخاصة العراق بعد وقوع هذا البلد تحت السيطرة العثمانية إثر معارك مع الصفويين في القرن السابع عشر والذين اتهموا حينها باضطهاد اليهود، وذلك بحسب كتاب الدكتورة خيرية قاسمية (يهود البلاد العربية).
  8. مرحلة عائلة روتشيلد اليهودية في محطاتها الأربع: الأولى تحريض بريطانيا على حاكم مصر محمد علي، ودفع جيوشها لفك حصار الجيوش المصرية لاسطنبول 1838. والثانية، دعم بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا الذي تبنى دعم تركيا العثمانية في مواجهة روسيا القيصرية (مضطهدة اليهود بحسب روتشيلد). والثالثة دعم رئيس وزراء بريطانيا دزرائيلي (يهودي أيضاً) لشراء أسهم مصر والخديوي إسماعيل في شركة قناة السويس مقدمة للسيطرة على مصر كلها، ثم تمويل الحملة البريطانية للقضاء على ثورة عرابي والضباط العرب في الجيش المصري مقابل سيطرة الضباط الترك والشركس والخديوي الدمية، توفيق.
    والرابعة تأسيس البنك العثماني مع بيوتات وعائلات مالية أوروبية بهدف تسريع رسملة تركيا ووضعها تحت السيطرة المالية اليهودية.
  9. مرحلة (الاتحاد والترقي) وهو حزب نشأ في سالونيك (يهود وماسون) وسيطر على الدولة، وخاصة في عهد السلطان محمد رشاد ونفذ مصالح العائلات البرجوازية اليهودية في إقصاء البرجوازية المنافسة، البرجوازية الأرمنية، ثم في شن حملة إبادة ضد الأرمن عموماً تجاوزت المليون ضحية.
  10. محطة المستوطنات اليهودية الأولى في فلسطين وقد ارتبطت جميعها إما بهزائم أمام الترك، وإما بدعم أوروبي للترك بعد هزيمتهم أمام العرب. فبعد معركة مرج دابق 1516 التي خسرها المماليك الذين كانوا يحكمون مصر والشام، سمح السلطان العثماني سليم الأول لليهود بالسيطرة على الحائط الغربي للمسجد الأقصى. كما عين والياً يهوديا على طبريا، هو جوزيف ناسي، وذلك لما يزعم اليهود من أهمية لطبريا عندهم وهو ما يذكر بتعيين بريطانيا لاحقاً لهربت صموئيل.
    وبعد أن أجبرت جيوش بريطانيا العظمى وروسيا القيصرية والنمسا والمجر، الجيش المصري على فك حصاره عن اسطنبول، عبّر سلاطين آل عثمان، عبد المجيد وعبد العزيز وعبد الحميد، عن شكرهم لعائلة روتشيلد اليهودية التي لعبت دوراً كبيراً في الحماية الأوروبية للسلطنة ومنعها من السقوط بيد المصريين، وذلك من خلال ما عرف بالاستيطان الروتشيلدي في فلسطين، ومنه على سبيل المثال:
  • في عهد عبد المجيد إقامة أول حي سكني قرب القدس باسم يمين موسى، وكذلك مستعمرة مشكانوت شعانيم.
  • في عهد عبد العزيز إقامة مستوطنات باسم المدارس الزراعية.
    والأخطر من كل ذلك ما جرى في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي تم تصويره كحامي لفلسطين من الاستيطان اليهودي، وهو ما يستدعي الملاحظات االية:
  • فيما يخص (جزئية) مفاوضاته مع هرتزل، فقد قدم السلطان بدائل لا تقل خطورة عن فلسطين مضفياً شرعية هلى حق يهودي مزعوم فيها، وهي بابل وسينا.
  • عدل موقفه السابق من فلسطين على دفعتين خطيرتين هما:
    o الأولى حصر انشاط الاستيطاني بيهود الإمبراطورية.
    o والثانية التغاضي دون إعلان (يثير حفيظة الرعايا المسلمين) عن إقامة مستوطنات يهودية في فلسطين، حيث أقيمت في عهده حوالي ثلاثين مستوطنة منها: بتاح تكفا 1878، يشون ليتسيون، وزخرون يعقوب 1882، التي تحولت إلى مقر لأخطر شبكة تجسس يهودية بريطانية، هي شبكة هارنسون وشقيقته سارة.
    وبحسب نجيب عازوري صاحب (يقظة الأمة العربية) الذي صدر 1905، والذي كان مساعداً للوالي العثماني في القدس كاظم باشا، فقد تغاضى الوالي عن تسرب مساحات واسعة من القدس لليهود مقابل 50 ألف ليرة تلقاها من ألبير عفيفي وكيل شركة يهودية في باريس. وتبين بعد ذلك أن السلطان عبدالحميد الثاني على علم بذلك وبدلاً من التحقيق في الموضوع كما طالب أعيان القدس، منح الوالي وسام السلطنة من الدرجة الأولى، ونشرت صورة لذلك في جريدة المقطم المصرية 1904.
  1. دور اليهود ضمن الوفد التركي لمؤتمر فرساي 1919 الذي يعرف أيضاً بمؤتمر الكاشير (طعام يهودي).
  2. محطة خميسنيات القرن الماضي، محطة عدنان مندريس، السلف المفضل لأردوغان والذي أظهر (إسلاماً) مفاجئاً خلال رئاسته للحكومة التركية من أجل استغفال المسلمين وجرهم إلى الأحلاف الاستعمارية، وخاصة حلف بغداد كجناح جنوبي لحلف الأطلسي. وقد تميز عهده بأشكال من الأسلمة والأسرلة والأمركة والأطلسة والخصخصة وإرسال قوات تركية مع الأمريكان في كوريا، كما بدخول الأراضي السورية وتأسيس وحدات عسكرية منشقة باسم الجيش الحر.
    أما أخطر أدواره بالإضافة لتوسيع العلاقات مع العدو الصهيوني، فهي مشاركته في مؤتمر سيفر 1956 (غير اتفاقية سيفر 1921) الذي نظمه الصهاينة والإنجليز والفرنسيون تمهيداً للعدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم عبدالناصر لقناة السويس. يشار هنا إلى أن مؤتمر سيفر حظي أيضاً بدعم نوري السعيد رئيس حكومة العهد الملكي آنذاك، كما بدعم تيارات إسلاموية أخرى.
  3. محطة الأصابع اليهودية في (برجوازية الأناضول) التي تبنت أوربة تركيا وعلمنتها في العقود الأولى من القرن العشرين، وبعد فشلها فيدخول النادي الأوروبي المسيحي استدارت نحو الشرق والأسلمة بحثاً عن منافسة أفضل في العقود الأخيرة عبر أوزال ثم دعم تيار فتح الله غولان الذي تولى رعاية اردوغان قبل تمرده على أربكان ثم جولان أستاذه الأعظم. لكن ما لا يستطيع اردوغان والغنوشي وكل رجال الإسلام البريطاني – الأمريكي الصاعدين إنكاره هو (التطويب اليهودي المقدس) لهم عبر زيارات أساسية وتأسيسية لكل من الآيباك (اللوبي اليهودي الأمريكي) الذي منح اردوغان (وسام الشجاعة) 2003، بعد زيارته إلى ما يعرف بنصب (المحرقة)، بل إن الغنوشي وضع على صفحته الخاصة صورته مع جورج سوروس وهو يسلمه درع منظمة (المجتمع المفتوح) وهي منظمة يهودية (ليبرالية) تفتخر بدورها في الثورات الملونة التي دمرت المعسكر الاشتراكي، واصطدمت مع مهاتير محمد في ماليزيا.
  4. مرحلة أوزال، تلميذ مندريس، الذي ترافقت حكومته مع الانهيار السوفييتي واهتمام الأمريكان باستيعاب (الجمهوريات الإسلامية) داخل الاتحاد السوفياتي ضمن ما أسماه المؤرخ اليهودي الأمريكي، لويس بالانبعاث العثماني. وقد أعلن في لقاء مشترك مع وفد (إسرائيلي) عن إطلاق (تركيا الكبرى) إلى جانب (إسرائيل الكبرى).
  5. مرحلة اردوغان، الذي ترعرع في مدارس فتح الله غولان (في طرابزون واسطنبول) والذي عرفه على الآيباك (حيث يجري تعميد الزعماء الصاعدين في الشرق الأوسط) وكذلك على المؤرخ اليهودي برنار لويس، أحد مؤسسي الخطاب السياسي الإسلامي الأمريكي، وفي الوقت نفسه صاحب مشروع تفكيك دول الشرق إلى كانتونات طائفية.
    فمن لويس وكتاباته تطورت فكرة الاقتسام الوظيفي التركي – الصهيوني (ولايات عثمانية وكانتونات إسرائيلية). وإذا كان اردوغان قد اصطدم مع معلمه الثاني غولان، فقد طور أفكاره في الواقع وراح يحضر لها بالتزامن، كما يتوهم، مع نهاية مسؤولية اتفاقية لوزان 1923. التي يرى أنها حرمت تركيا من الموصل وحلب والجزر اليونانية في بحر إيجه.
  6. المحطة الأخيرة، والتي تكثف كل ما سبق، هي محطة الاستراتيجية الأمريكية حول تركيا، كما رسمها أكبر عقل أمني أمريكي، بريجنسكي باستشارة صديقه المؤرخ اليهودي الأمريكي، من أصل بريطاني، برنار لويس، صاحب كتاب (لغة السياسة في الإسلام) بالإضافة لأطروحته حول تركيا.
    فبحسب بريجنسكي، الذي أكدت مقارباته اطلاعه على (المنطق) التاريخي عند هيغل والفلسفة الألمانية والحوليات الفرنسية وأعلام الجغرافيا السياسية والجيوبولتيك أمثال: راتزل وماكندر وماهان، وكذلك سياسات رجال لندن في القرن التاسع عشر مثل دزرائيلي وبالمرستون، فإن روسيا من الأمم التي يمكن أن تصعد من جديد بعد كل أزمة استراتيجية تصيبها، وانطلق من ذلك لإعادة الاهتمام بالانبعاث العثماني كحزام أخضر إسلامي حول روسيا.
    هكذا، ولدت فكرة (تركيا الكبرى) باسم أوزال 1992، ثم باسم اردوغان مع العشرية السوداء لوضع يده على الحكم في أنقرة من اسطنبول و(القصر الأبيض) الذي شيده اردوغان من أموال دافعي الضرائب، تماما ًكما فعل السلطان عبدالحميد الذي لم تعجبه كل القصور السابقة وبنى قصر يلدز المعروف والدولة مثقلة بالديون الناجمة عن الفساد والحروب العبثية.

الدكتور موفّق محادين