الترسيم والمقاومة بين حقوقنا الاقتصادية وحقنا القومي



يوم أقفل المقاومون بوابة فاطمة في كفرفلا في 25 ايار في عام 2000، خلف خروج العملاء من الجيب اللبناني المحتل، كانت تلك الخطوة أبرز تجليات التحرير الذي صنعته أيادي البطولة ووقفات العز. وكان رحيل القوات الإسرائيلية المحتلة، وعملاء لحد وسعد حداد الذي سبقه، انجازاً فاخر به لبنان واللبنانيين نظرائه من الدول العربية. إنه انسحاب للعدو وقد تم دون أية تنازلات أو معاهدات تطبيع، وبعدما انهزم شرّ هزيمة وهو أقوى جيوش المنطقة في السلاح والعتاد والتقنيات المتطورة، الذي تقدمه له دول عظمي وخاصة الولايات المتحدة الاميركية .
ليس غافلاً على أحد أن الدعم غير المحدود الذي يقدمه الغرب لدولة الاحتلال هذه هدفها أمران. أولاً، المحافظة على حالة الانقسام القائم بين كيانات الأمة وأطيافها من أجل تعزيز حالة الانقسام القائم بين كيانات الأمة وأطيافها. وثانياً، الإستيلاء على موارد كيانات هذه الأمة وثرواتها المكنونة، ولا شك أن هذه المطامع والاستهدافات ليست جديدة بل هي منذ زمن سايكس – بيكو ووعد بلفور، ومؤتمرات سان ريمو ولوزان، وكل هذه المحطات التي أوصلت بلادنا الى هذه الحال من التفرقة والتقسيم وكذلك الهوان والضعف.
يقول سعادة عن هدفه من انشاء حزبه، انه غرض اسمى، وهو “جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها ووطنها “ويضيف، “قبل وجود الحزب كان مصير هذه الأمة معلقاً على إرادات خارجية. . . حررنا انفسنا ضمن الحزب .. وبقي علينا ان ننقذ امتنا بأسرها وأن نحرر وطننا بكامله.”
هكذا قال سعادة في الأربعينات من هذا القرن، يوم كانت الإرادات الاجنبية تطبخ لأمتنا إنشاء كيان الاغتصاب وتشتيت ثرواتنا، وكان موقف سعادة مواجهة هذه المشاريع ودعوته الأمة الى النهوض والتغلب على هذه الاستهدافات، إحدى أبرز أسباب اغتياله.
لا بد من التأكيد على سياق المواجهة الذي سلكه سعادة وتميز به وقدراته على استكشاف النوايا الأجنبية، وتجلي ذلك منذ عملية سلخ لواء الاسكندرون وكيليكيا في شمال سوريا وهي الارض الغنية بمواردها والتي ذهبت عام 1939 هبة إلى تركيا إرضاء لها من قبل التحالف البريطاني الفرنسي في اتفاقية لوزان، فكانت كقطعة الحلوى.
ويقول هنا سعادة “لم تكن القوانين الدولية التي سنتها لبلادنا الدول المنتصرة، لخير حقوقنا بل هي حافظت على وضعية القوة الطاغية دون اية محاولة لتخفيف العدالة.”
هذا في شمال الأمة أما في جنوبها، فكان ما دبره هذا العالم لفلسطين، حيث دعم الانكليز قدوم اليهود الى فلسطين، واستلجبوهم من أقصاع الأرض، وأقاموا لهم دولتهم العنصرية، وبالمقابل، تم تهجير الشعب الفلسطيني إلى مخيمات دول الطوق، ومنها الى الشتات في دول في العالم قاطبة في أغرب سلوك استعماري عرفته البشرية إلى الآن، أي أن تمنح ما لا تملك لمن لا يستحق.
لم يكن سلوك الأمم المتحدة عادلاً في هذه القضية التي لا زالت تداعياتها إلى اليوم تؤثر على حياة هذا الكوكب بأسره وليس على بلادنا وحسب لأنها لا زالت تمثل نموذجاً للعدالة المنقوصة في العالم. وهذا ما أدركه سعاده عندما قال، عن “عصبة الأمم” أن هذه المنظمة لم تنشأ كنتيجة عامة لإنسانية عامة. نشأت من أمم منتصرة لتقر الحق الذي تقرره الأمم المنتصرة “.
كانت القوانين الصادرة عن عصبة الأمم أولاً ثم عن الأمم المتحدة بعدها، تعبيراً عن إحلال منطق القوة محل العدالة للشعوب مما يناقض صيغة العدل الحقوقي الذي حملته شرائع هذه المنظمة من عناوين ومن نص دون روح يكفل إحقاق الحق.
لا زالت المنظمات التي يزعم العالم أنها مرجعية دولية، تعتمد شعار تيمورلنك القائد المغولي الذي دمر بلادنا منذ أكثر من ألف عام، وكان شعاره هو ذاته الذي نقش على خاتمه “الحق للقوة”، فإنها سياسة العالم القديم والتي لا زالت تحكم عالمنا الجديد …انها إزدواجية المعايير التي أبقت على الحق للقوة وليس العكس.
هذه الإزدواجية التي تتجلى بوضوح على أرض بلادنا وخاصة في العلاقة بيننا وبين سياسة “العالم الحر” تجاهنا وتجاه كيان الاغتصاب “اسرائيل”، من خلال القوانين الدولية التي أصدرتها الأمم المتحدة بشأن فلسطين منذ قانون الهدنة عام 1949، وما تلاها من قرار 242 و425، وكل ما عداها من قوانين وما رافقها من “فيتوات” على شكاوى ومشاريع وقوانين بإدانة هذا الكيان على ارتكاباته وجرائمه، وصولاً إلى اجتياحها لبنان أكثر من مرة، الأولى عام 1977 والتي أدت إلى جعل من منطقة واسعة من جنوب لبنان حزاماً أمنياً يحميها عملاء ارتضوا تلك المذلة.
الاجتياح الثاني كان عام 1982 يوم احتل الصهاينة بيروت، ثاني عاصمة عربية بعد القدس، وكان ذلك أبرز تجليات سياسة إزدواجية المعايير، والتي لا تزال تحكم العالم إلى اليوم.
كان إصرار دولة الكيان الصهيوني على إلزام الدول المحيطة بها على خيار الاستسلام، تحت عنوان السلم، وكان أول استهدافات قانون الهدنة الصادرعام 1949 إثر إعلان دولة الكيان الصهيوني، هذا، والذي كانت أبرز أهدافه تسهيل حالة الانتقال من الحرب إلى المهادنة ومن ثم إلى حالة السلام الدائم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، متخطية كل الحقوق الواجبة للشعب الفلسطيني ودول الجوار.
هذا المخطط سرعان ما ظهر لاحقاً في الاتفاقيات الثنائية التي تمت بينها وبين الدول التي ضمها اتفاق الهدنة، مصر والأردن، بينما الدولتان الوحيدتان اللتان بقيتا خارج أي خيار استسلام هما سوريا ولبنان.
وكانت المقاومة، لغة التفاوض الوحيدة مع لبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، وتجلت نتائجها منذعملية القضاء على “أسرلة” لبنان، من خلال عملية حبيب الشرتوني وقتل بشير جميل الرئيس المنتخب من على دبابات الكيان الاسرائيلي، إلى عملية الويمبي وخروج العدو من بيروت ثم توالت الانسحابات والهزائم من مدن الجنوب إلى راشيا والبقاع الغربي وكذلك العمليات الاستشهادية، أجساداً تواجه دبابات المركافا، وتعلن نظرية الفداء من أجل الأرض والوطن.
هذا التطور للمقاومة على الساحة اللبنانية، جعل منها لغة التخاطب الوحيدة مع العدو وتوالت الهزائم وتتالت الانتصارات إلى أن توجت بالانسحاب الكامل عام 2000 بانتصار تباهى به لبنان، وبات نموذجاً يقتضى به. وكان الخط الأزرق الذي حدد حدود لبنان البرية رغم التحفظات عليه من أهل الأرض الذين لايعترفون بأية حدود بينهم وبين فلسطين، ممهوراً بالدم وقد جعل من أرض الجنوب المباركة مفخرة وعزاً ومزاراً.
الدرس الأهم الذي قدمته حرب تحرير لبنان هو الانهزام للعدو شر هزيمة معنوياً ومادياً، وفقدان شعبه الثقة بقيادته. وسقطت نظرية الجيش الذي لا يقهر وانتصرت نظرية سعادة “إن القوة هي القول الفصل في إحقاق الحق القومي أو إنكاره. ” بيننا وبين هذا العدو لا علاقات ولا تفاوض فقط الحديد والنار. هكذا علمنا سعادة منذ سعيد العاص، وحسن البنا، ومنظمة الزوبعة. كان هذا نهجنا وسيبقى.
يفهم حزبنا السياسة انطلاقاً من قول سعادة، “السياسة فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية. السياسية عندنا وسيلة لبلوغ الأغراض القومية. نحن لا نفهم السياسة من أجل السياسة والأهداف الصغيرة. إن واقع بلادنا وما يحيق بها من مخاطر ومطامع يستدعي منا الحذر الشديد.”
اليوم في ما يرسم لبلادنا هو استهدافات عالمية وأبرزها الإستفادة من ثرواتها وغازها ونفطها في ظرف دولي حساس للغاية. فقد أنجزت المقاومة لهذا الكيان، المنهك بنظامه السياسي الطائفي المهترئ وفساد سياسيه، القدرة على الاستفادة من هذه الثروات ولا يخفى على أحد أن الكيان الإسرائيلي الغاصب الذي لم يحدد حدوده إلى الآن، بل لا يزال يرفع شعار من الفرات إلى النيل، استغل “اتفاقياته السلمية” من أجل الحصول على ثروات بلادنا من الغاز والنفط، وحده لبنان كفلت له المقاومة، انسحاب العدو من أراضيه دون شروط، والحصول على ثرواته وهو بأمس الحاجة إليها، أيضا دون شروط .
إن سياسة إقفال الباب على الحلول السلمية والتفاوض المباشر مع العدو الوجودي لبلادنا، هي نهج يتأكد كل يوم بأنه وحده الخيار السليم إيمانأُ بقول سعادة “إن اعتمادنا في نيل حقوقنا والدفاع عن مصالحنا على قوتنا، نحن نستعد للثبات في تنازع البقاء والتفوق في الحياة وسيكون البقاء والتفوق نصيبنا.”
هل كان أحد يعتقد أن أحداً كان بإمكانه منع الولايات المتحدة الأميركية وربيبتها إسرائيل من التنقيب وحدهم وسرقة ثرواتنا ليس في حدود الكيان اللبناني وحسب بل في كل بحرنا السوري، لولا مقاومتنا التي علمت العدو وداعميه دروساً في مقاومة مبدعة باتت هي القضاء والقدر ….من لبنان الى فلسطين.
قد يتراءى للبعض أن هذه التفاهمات من خلال الأمم المتحدة على الاستفادة الاقتصادية من مواردنا قد تفتح باباً للتطبيع على غرار ما يحاول البعض تسويقه في الإعلام من حملات ممنهجة لهذا الغرض. لكن أي شيء من هذا لا يمكنه أن يحصل في بلد علّم العالم درساً في التحدي والمواجهات، ولا زالت المقاومة هي معياره في استعادة الحقوق وستبقى .

كوكب معلوف