كلهم رحلوا وبقي أنطون سعاده

ليل السادس من تموز عام 1949، دخل أنطون سعاده القصر الجمهوري وحيداً، وعندما قابل حسني الزعيم، رمى المسدس الذي أهداه إياه عربوناً للصداقة، في وجهه، واتجه صوب مندوبَي الحكومة اللبنانية، مدير قوى الأمن الداخلي نور الدين الرفاعي ومدير الأمن العام فريد شهاب، اللذين اصطحباه إلى السيارة وأجلساه بينهما.

سلم حسني الزعيم أنطون سعاده إلى الحكومة اللبنانية، لقاء أموال قبضها من الموساد “الإسرائيلي”(1)، شرط أن يتم قتله في الطريق، قبل وصوله إلى بيروت ومحاكمته، وعندما وصلت السيارة إلى وادي الحرير، طلب نور الدين الرفاعي من سعاده أن ينزل من السيارة، لكن فريد شهاب منعه من النزول، وتابعوا سيرهم إلى بيروت، حيث أُودع سعاده ثكنة الدرك الواقعة قرب مستشفى أوتيل ديو، وقد حضر بشارة الخوري ورياض الصلح ليتأكدا أنه تم القبض عليه.

أصدرت قيادة الجيش اللبناني مذكرة بتشكيل الهيئة الدائمة للمحكمة العسكرية، التي تألفت من المقدم أنور كرم كرئيس، القاضي غبريال باسيلا كمستشار، النقيب طانيوس السحمراني، الملازم الأول عزيز الأحدب والملازم أول أحمد عرب كأعضاء، والقاضي يوسف شربل ممثل النيابة العامة كمدعي عام، الملازم حبيب بركات كمحامي دفاع أساسي، والملازم الياس رزق الله محامي دفاع احتياطي في الهيئة الاحتياطية للمحكمة.

أُدخل أنطون سعاده إلى قاعة المحكمة العسكرية، محاطاً بالحرس، سألته المحكمة إذا كان يرغب بتعيين محامٍ للدفاع عنه، فسمّى المحامي إميل لحود، الذي أُدخل إلى قاعة المحكمة على عجل، وطلب من المحكمة إعطاءه مهلة أسبوع لدراسة القضية، فرُفض طلبه، ثم اختصر المهلة لثلاثة أيام ليُجاب مجدداً بالرفض، فرفض تولي مهمة الدفاع، عندها طلبت المحكمة من أحد الضباط وهو الملازم حبيب بركات تولي الدفاع.

وقف سعاده خلف القفص الحديدي مبتسماً، وكأنه هو الذي يُحاكم كل هؤلاء لا العكس، وبدأت الأسئلة تنهال عليه، وكان يجيب عليها بكل حزم وشجاعة لا توصف، لقد استطاع أن يدافع عن نفسه وعن قضيته بشكل ملفت، وقد حاول محامي الدفاع الملازم بركات، أن يبرّئ سعاده، لكنه أدرك أن هيئة المحكمة لن تقتنع بما أورده من دفوع وأسباب لثنيها عن تهمة التآمر، كما حاول إقناع حضرة الزعيم أن يجد له أسباباً تخفيفية، لتفادي حكم الإعدام، لكن سعاده تمسك ببراءته، وكان قرار هيئة المحكمة قد تم اتخاذه مسبقاً، فحكمت عليه بالإعدام، لقد كانت هذه المحاكمة وصمة عار على هذه المحكمة، وإدانة لها، ولم يكن هذا الحكم حكماً قضائياً، بل كان اغتيالاً سياسياً، مختبئاً تحت عباءة القانون والعدالة.

تمت دعوة وزير العدل، الرئيس الأول لمحكمة التمييز ولمجلس القضاء الأعلى إميل تيان إلى القصر الجمهوري، منتصف ليل الثامن من تموز 1949، وطلب منه رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ترؤس لجنة العفو للنظر في حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة العسكرية بحق سعاده، فرفض لأن لجنة العفو تجتمع بناءً على دعوة من رئيسها، لا بدعوة من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، كما أنها يجب أن تجتمع في قصر العدل، وليس في القصر الجمهوري.

وقام أفراد من الدرك بجلب الكاهن أيلي برباري، لكي يعرّف سعاده، وسأله الكاهن إن كان يود أن يقوم بواجباته الدينية، فأجابه لمَ لا، ثم طلب إليه أن يعترف، فأجاب أنه ليس له من خطيئة يرجو العفو من أجلها، فهو لم يسرق ، لم يدجل، لم يشهد بالزور، لم يقتل، لم يخدع، ولم يسبب تعاسة لأحد.

طلب سعاده رؤية زوجته وبناته فرُفض طلبه، وأوصى بقطعة أرض يملكها في ضهور الشوير أن يتم تسجيلها باسمهن بالتساوي، ومبلغ أربعمائة ليرة لبنانية كان معه أن يُوزع علىهن بالتساوي أيضاً.

طلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أن ذلك مستحيل، طلب ورقة وقلماً، فرُفض طلبه، فقال إن له كلمة يريد أن يدونها للتاريخ، صرخ أحد الضباط: “حذار أن تتهجم على أحد، لئلا نمس كرامتك”، فأجابه مبتسماً، أنت لا تقدر أن تمس كرامتي، ما أُعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه، وتابع قائلاً: “أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت، لا أعد السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها، هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة، يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد”.

بعدها نُقل حضرة الزعيم إلى منطقة الجناح لناحية منطقة الرملة البيضاء، وأركعوه وشدوا وثاقه إلى عامود، وآلمته حصى تحت ركبته، فسألهم أن يزيلوها فأزالوها، فقال لهم : شكراً شكراً، رددها مرتين، قبل أن تخترقه رصاصات الغدر.

لقد رحل بشارة الخوري ورياض الصلح ويوسف شربل وأنور كرم وغبريال باسيلا وطانيوس السحمراني وعزيز الأحدب و أحمد عرب، ورحل معهم نور الدين الرفاعي وفريد شهاب وكل الذين تآمروا على أنطون سعاده وحزبه، رحلوا واندثر ذكرهم، رحلوا إلى مزابل التاريخ، بل إلى ما هو أدنى منها، فهذا هو مآل الذين يخونون وطنهم وشعبهم، وبقي أنطون سعاده خالداً في ضمير الأمة ووجدانها، وفي عقول كل القوميين الاجتماعيين وكل الأوفياء لأمتهم وأرضهم.

المجد لسورية والخلود لسعاده

مذكرات عديل حسني الزعيم نذير فنصة