نشوء الدولة وتطورها

    للدولة وظيفة أساسية هي العناية بسياسة المجتمع، وترتيب علاقات مكوناته في شكل نظام يحدد الحقوق والواجبات، إما بالعُرف أو العادة، أو بالغلبة والظلم والاستبداد، فتصبح الدولة شأناً سياسياً من شؤون المجتمع المركب، وليست شأناً لا اجتماعياً، لأنها لا توجد إلا في المجتمع، كما أن السياسة لا يمكن أن توجد بدون الاجتماع، وهناك نظرية تقول بأنّ الدولة نشأت مع بدء الإنسانية، بينما تقول نظرية أخرى بأنّها نشأت حيثما ظهرت الفوارق الاجتماعية، وفي الحالتين هي موجودة لتحقيق حياة حسنة الانتظام.

    في عالم الحيوان نجد أن أشكال التجمع مرتبة، حيث نجد في بعض الأنواع، نوعاً من الزعامة، وهناك فرق كبير بين هذه الظاهرة وحقيقة الترتيب المنطقي العقلي في تصنيف المجتمع الإنساني، فوجود دول مثل “دولة النّمل” و”دولة النّحل” يجب أن لا يدفعنا على التفكير بوجود دول منشأة في هذه الحشرات، لأن الدولة شكل من أشد أشكال الكيان الاجتماعي تعلقاً بالعقل، ومن هنا لا يمكننا أن ننقل هذا الاصطلاح الإنساني إلى عالم الحشرات، لأننا عندها نضع ما هو ثقافي وما هو طبيعي غريزي في نفس القياس.

    للحصول على تحديد حقيقي للدولة، وفهم نشوء الدولة وتطورها، يجب أن نلقي نظرة على الحقوق، ففي أبسط درجات الاجتماع البشري نجد الجماعة أو العشيرة، ولا نلحظ أي وجود للفرد، من الناحيتين الاقتصادية والحقوقية، فهو ليس بداءة الاجتماع ولا دور له في تعيين الاجتماع وكيفيته، فالجماعة أو العشيرة هي الأساس في بداءة البشرية، وتخضع لجميع أنواع الرؤى والأوهام، وهذه الرؤى وهذه الأوهام هي كل حياتها النفسية، لذلك نرى الحق والدِين شيئاً واحداً في البدء.

    إنّ القرابة بين عرض الإنسان وعرض الحيوان، جعل الإنسان يشعر من نفسه في نفس الحيوان، فنشأت تخيلات انتقال النفس بعد الموت إلى حيوان أو إلى إنسان آخر، فأخذت كل عشيرة حيواناً أو نباتاً أو جبلاً لتُعرف به، وهذا ما يُعرف بالطوطمية، وقد تتخذ عدة عشائر طواطم مختلفة في بقعة واحدة، فينشأ الطوطم المكاني الذي يجمعهم جميعاً ويخضع له كل واحد منهم، وتوافق هذا الطوطم يدفع إلى الاعتقاد بأن التواصل الجنسي بين رجال طوطم ونساء طوطم آخر هو أمر مستحسن، فينشأ الزواج الخارجي، الذي أدى إلى تحريم الامتزاج الدموي الداخلي، وبقي الزواج الخارجي زواج جماعات لا زواج أفراد، مستمراً لفترة طويلة من الزمن، وطريقته أن تعتبر نساء الجماعة الواحدة مخصوصة لرجال الجماعة الأخرى، فليس هنالك عقود زواج، بل إباحة الاختلاط بين رجال الجماعة الواحدة ونساء الجماعة الأخرى بدون حدود، فيصبح المظهر التام لشيوعية العمل والنتاج، مكملاً شيوعية العلاقات الجنسية.

     ارتبط الزواج الخارجي بالحقوق الأمومية، حيث أنّ الأولاد يبقون في عهدة الأم، ويكونون من نصيب جماعتها، التي هي صاحبة الحق وليس الفرد، وهذه الحقوق ناشئة من فكرة أنّ الأم تعتني بالأولاد، بينما يخرج الأب إلى الصيد، ويكون الطّفل متعلقاً بالأم وعائلتها، والرجال الذين يكونون إلى جانبها هم إخوتها، أي أخواله، الذين تنشأ بينه وبينهم روابط متينة جداً، وقد تكون هذه الحقوق هي الأقدم.

    وهناك الحقوق الأبوية، وهي نقيض الحقوق الأمومية، فالولد للأب لا للأم، وتنص هذه الحقوق في الزواج الخارجي على أنّ الأطفال المولودين من فريق رجال جماعة ونساء جماعة أخرى يخصون جماعة الآباء وطوطمها، لا جماعة الأمهات وطوطمها، والشعوب المتمشية على قاعدة الحقوق الأبوية خرجت إليها عن طريق حقوق الأمومة، وحصل هذا التحول في أزمنة بعيدة.

    تحول الزواج الخارجي إلى الفرديّة، حيث أصبح من الواجب إجراء عقد للزواج، وهذا ما دفع بعض العشائر المتقاربة إلى الانقسام أو الارتحال، وقد نشأ من الزواج المجموعي نوع عرف بتعدد الأزواج، وسببه كثرة وأد البنات وقتلهن، لم يلبث أن تطور نحو الزواج الفردي، ما عزز فكرة إقدام الرجل على اختطاف المرأة الّتي يريدها، فهو قوي، ولديه رغباته الخاصة، وكان يغزو ويعود ظافراً بالسبي، فتخضع المرأة لإرادته ورغباته، فأصبح الرجال قوامين على النساء، وأدى هذا الاختطاف في الحالات الأولية للشعوب المرتقية إلى شراء الرجل للمرأة، وضياع حقوقها، ثم تطور الزواج من الشراء الأولي، إلى الهدية والعربون، فأعاد إلى المرأة مركزها الشخصي وأزال عنها صفة السلعة.

    نشأ الاستعباد من الغزو والسبي، وهو ليس قديماً جداً، فقد نشأ مع تحول الجماعة إلى الزراعة والإقامة اللتين يمكن فيهما الاستعباد، وشكل العبيد عنصراً هاماً من عناصر الثقافة الزراعية الأولى، وتميز البعض منهم بحِرف خاصة، وأقاموا مع أسيادهم في منازلهم وحقولهم.

    تناولت الحقوق الجزائية شكلي العلاقات الاجتماعية الخارجي أي ما يحدث من قبل جماعة لجماعة أخرى، والداخلي وهو ما يحدث من قبل أفراد في الجماعة نفسها، ما أدى إلى نشوء الحروب بين العشائر المتجاورة طلباً للثأر، والسبب يعود في الأصل إلى طلب التعويض عن الخسارة التي منيت بها عشيرة المصاب، ولا يًبحث عن الحق والذنب والاعتداء كيف وقع بل تطلب العشيرة أو القبيلة إلحاق خسارة مثل خسارتها بالعشيرة التي خرج منها الاعتداء، ويؤلف الثأر وجهة الحقوق الجزائية الوحيدة في الشعوب الأولية، ويدخل التقاليد، فهو ليس للقصاص من أجل العدل الاجتماعي، بل للتعويض عن الخسارة، أما الحقوق الجزائية الداخلية أي التي تتعلق بما يرتكبه الرجل في عشيرته، فشأنها يختلف عن حقوق الجزاء الخارجي، لضرورة حفظ النوع المصغر في العشيرة، وهو ما يهم الجماعة في مصيرها، فلا يكون ضمن العشيرة حرب وقتال في سبيل الثأر، وتطرد العشيرة الأشخاص المذنبين وترفع حمايتها عنهم، وقد وجدت الجماعات الأولية مخرجاً مما يجر إليه الثأر في حقوق الإجارة، خصوصاً في المجاميع التي أخذ فيها نظام العشيرة ينحل في القرية إلى نظام العائلة الفردية والثأر الفردي.