يأتي الأوّل من آذار من كلّ عام مبشّراً بنضارة الحياة والتجدّد، مبشّراً بالخلقِ والربيع، بولادة الإشعاع الفكريّ، مبشّراً بظهور فتى الربيع أنطون سعاده على مسرح الأحداث في تاريخ هذه الأمّة التي كانت نبراساً للعلوم والتقدّم والحضارات. ويقوم السوريون القوميون الاجتماعيون بإحياء هذه المناسبة بأساليب مختلفة، ويعتبرون هذا العيد عيداً قوميّاً تتجدّد فيه آمالهم في نهوض البلاد، واستمرارية العطاء اللامتناهي وفاءً لدماءِ فتى آذار ووفاءً لتعاقدهم مع زعيمهم الشارع صاحب الدعوة القومية الاجتماعيّة.
باعتبار أن إحياء مناسبة الأوّل من آذار واجبٌ قوميٌّ على السوريين القوميّين الاجتماعيين، فإنّه يكون واجباً عليهم إحياء هذه المناسبة كما أراد هو لها أن تكون، وعلى الخلفيّة عينها التي اعتقد بها هو وجدانياً ومناقبياً، وإلاّ تحوّلت إلى مجرّد ذكرى أو تقليد بالٍ، أو ربّما إلى طقس صنميّ أجوف.
لقد ردّ سعاده على الرفقاء الذين أتوا إلى حيث يقطن في منطقة رأس بيروت لمعايدته بذكرى ميلاده في الأول من آذار سنة 1935، مبادراً إلى تلاوة قسم الزعامة الذي قال فيه:
«أنا أنطون سعاده أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أن أقف نفسي على أمتي السورية ووطني سورية، عاملاً لحياتهما ورقيّهما، وعلى أن أكون أميناً للمبادئ التي وضعتها وأصبحت تكوّن قضية الحزب السوري الاجتماعي ولغاية الحزب وأهدافه، وأن أتولّى زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي وأستعمل سلطة الزعامة وقوّتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة، على كل هذا أقسم أنا أنطون سعاده».
وهنا بعض الأسئلة التي تفرض نفسها للإجابة على إشكالية وجوب الاحتفال بمولد أنطون سعاده بوصفه مناسبة فردية، أو الاحتفال بقسم الزعامة الذي كرّس سعاده به زعامته للحزب وجعل لهذه السلطة (الزعامة) صفةً مؤسساتية لا يستعملها إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة منتزعاً الفردية عن شخصه، واقِفاً نفسه على أمته السورية ووطنه السوري.
هل اعتبر سعاده نفسه مميزاً عن رفقائه حتّى يقدم على تلاوة هذا القسم؟
لماذا منح نفسه الصلاحيات المطلقة في السلطات كافة؟
هل ارتجل سعاده قسم الزعامة أم أنّه كان قد أعدّه مسبقاً لغايةٍ معيّنة؟
ما هو الواجب الواقع بالنتيجة على جيلنا الذي لم يجايل سعاده، لكنه تعاقد معه على قضية تساوي الوجود؟
لقد درس سعاده واقع الأمّة بعنايةٍ وتأمّل بدافع البحث عن الإجابة على تساؤله: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟».
قاده هذا الدرس إلى وضع مبادئ وأُسس العقيدة القومية الاجتماعية، وربطها بفلسفةٍ جديدة أطلق عليها تسمية «المدرحيّة». وإذا كانت أسس عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي هي غايته ومبادئه الأساسية والإصلاحية، فـ«المدرحية» هي فلسفة وروح هذه العقيدة. لا بل هي عقيدة -وبأقصى ما يمكن من الاختصار، علماً أنّ شرحها ليس هدف هذا المقال- تجعل العقل شرعاً أعلى، والذي ينتج عن تفعيل العقل في الثقافتين الماديّة والنفسيّة – الروحيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار التفاعل القائم بين الجسم – النفس – المحيط.
كما قاده هذا الدرس إلى ربط انتصار القضية التي حمل لواءها بوعي الأعضاء للأساس القومي، والذي ترجمه في المبدأ الأساسي الثامن: «مصلحة سورية فوق كل مصلحة». وهنا لا بدّ لنا من التأكيد على أن الأمّة واقع اجتماعي طبيعي، وأنّ تفاعلها، أفقيّاً بين مكوّناتها البشريّة، وعموديّاً، بين مكوّناتها البشريّة من جهة، والبيئة الطبيعيّة التي تحتضن تلك المكوّنات البشريّة من جهة أخرى (المحيط)، يؤمّن (تفاعلها)، جرّاء ما يتولّد عنهما من وجدانٍ قومي، للأمّة نهوضاً ورقيّاً في حياةٍ مشتركة آمنة ومستقرة. وهذا ما يؤهّل الأمّة، بصفتها المجتمع الأتمّ، للإسهام في بناء حضارة إنسانيّة تقوم على احترام الأمم واعترافها بحقوق بعضها البعض وبالسيادة القومية على البلاد.
لقد تميّز سعاده في التاريخ الإنساني عن جميع من سبقه من المفكّرين والنهضويّين وعلماء الاجتماع والمصلحين في مقارباتهم للإصلاح في الشأن العام، بوضع العقيدة القومية الاجتماعية، وتأسيس الحركة التي تكفل انتصارها، ووضع بنود الدستور الذي اعتبره أعظم عمل قد قام به بعد وضع العقيدة. كما تميّز بجعل الأساس القوميّ معياراً أساسياً لكلّ أعماله ولحركة الحزب وأعضائه، متوّجاً مصلحة سورية على كل مصلحةٍ أخرى جاعلاً منها ميزاناً لمستوى إيمان الأفراد.
لقد أيقن سعاده في ذاته هذا التفرّد أو التميّز، كما أيقن أن النهضة التي يسعى إليها هي إنتاجه الحصريّ، هذا من جهة.
من جهة أخرى، لقد سبق لسعاده قبل تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، أن أسّس أحزاباً وجمعيات باء تأسيسها بالفشل بسبب أعضائها الذين تغلّبت عليهم النزعة الفردية، وفي ظلّ هيمنة المعتقدات الوهميّة والفئويّات والمصالح الخصوصيّة. وفي كلّ مرة كانت تبوء محاولاته بالفشل، ينتهز سعاده الفرصة لمحاولات أخرى إلى أن رسا تفكيره على تأسيس هذا الحزب بنظام فكره وأشكاله، مؤكداً أن «الحزب فكرة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها». ورأى أنّه لزامٌ، التأسيس لحركةٍ يؤمن أتباعها بالعقل شرعاً أعلى، وبالأساس القومي مجالاً وهدفاً لمختلف أشكال النشاط، أكان اجتماعيّاً، أو سياسياً أو اقتصاديّاً أو ثقافيّاً.
لكل ما تقدّم، أدرك سعاده ضرورة إنشاء الحركة التي تقوم على أكتاف نخب من الجبابرة المؤمنين بعقيدته وبمنطق حراكه وبإخلاصه وقدرته على قيادتهم إلى النصر. وقد ترجم ذلك بقسم الزعامة الذي حصر نصّه سلطتها وقوّتها لقيادة الحزب، وبالتالي انتصار النهضة القوميّة الاجتماعيّة، مؤكّداً على مرحلتين (إيجاباً وسلباً) «…أستعمل سلطة الزعامة وقوّتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة».
ولا بد هنا من لفت انتباه القارئ إلى مفهوم الزعامة، كي لا يتبادر إلى ذهن أحد أننا نقف أمام حالةٍ ديكتاتورية بغيضة تريد أن تجعل من الشعب مطيّةً لمصالحها الفردية. الزعامة هنا هي قيادة وضمانة وحصانة لحسن سير العمل النضالي، وللحيلولة دون الشطط الفكري أو السياسي، ولعدم توفير الفرصة أمام الأيدي العابثة من أن تورّط الحزب في منزلقات المصالح الخصوصية والفئوية، ومنعاً للعبث في عقيدة الحزب.
في هذا الإطار، جاء في مقدّمة دستور الحزب، أنّ نشوء الحزب جاء بموجب تعاقد بين الشارع صاحب الدعوة (الزعيم) بوصفه طرفاً أوّل، وبين كل سوري مقبل على الدعوة (بوصفه طرفاً ثانياً)، على أن يكون واضع أسس النهضة السورية القومية زعيم الحزب مدى حياته، وعلى أن يكون معتنقو دعوته ومبادئه أعضاءً في الحزب يدافعون عن قضيته ويؤيدون الزعيم تأييداً مطلقاً في كل تشريعاته وإدارته الدستورية.
إلى ما تقدّم، نكاد نجزم أن سعاده لم يرتجل القسم في يوم ميلاده عام 1935، بل أعدّه بكل عناية وتفكير وأطلقه حين أيقن أن الحزب الذي أراده، حركةً تنتصر بالفكر، أصبح حقيقةً موجودة فعلاً، وذلك للحدّ من البلبلة والفوضى.
بهذا الإيمان كان سعاده، وبهذه الرؤية تولّى الزعامة. بهذا الإيمان وبهذه العزيمة الصادقة ندكّ حصون الصعوبات وننتصر. وبهذا الإيمان يجب أن نؤمن به زعيماً ومعلّماً وفادياً ونهضوياً قد ختم نضاله بدمه.
ولأنه يمكننا أن نتقدم من الشكّ إلى الإيمان، ولا يمكننا أن نتقدّم من الإيمان إلى الشكّ، ولأننا لا نؤلّه شخصاً ولا نؤمن بحتمية شيء سوى التطوّر، ولأن قضيتنا تمثّل كلّ خير وكلّ حقّ وكل جمال، يكون من واجبنا، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين، الإقدام على إحياء المناسبة احتفالاً بقسم الزعامة كما أراد صاحب الذكرى الذي حوّل هذا اليوم إلى عيدٍ قوميّ عام بعد أن كان عيداً شخصيّاً خاصّاً. والاحتفال بالعيد لا يعني تنظيم المهرجانات أو إضاءة الشموع، الاحتفال يجب أن يكون عبر تكريس مفاهيم نهضتنا وجعل الحزب ومؤسساته منارةً تشرقُ لانتصار قضيتنا القومية، لا مطيةً للنزعات ولا منبراً لأصحاب الطموحات الفردية.
حسن الخنسا