مقال نشرته “أساس-ميديا” تُعيد نشره صباح الخير البناء:
لا شيء ينبىء بخير عن وحدة لبنان ما دامت تطلّ بين الفينة والأخرى دعوات إلى “الفدرالية” التي هي بمضمونها إعلان استحالة العيش بين المكوّنات الأهلية اللبنانية. إنّ تعثّر النظام السياسي الطبيعي والمُختلَق هو ما راح يدفع الأمور في هذا الاتجاه. في الحروب الأهلية الملبننة كانت تصدر نداءات لإعادة لحمة البلد، أكثر من تلك التي تنادي بتقسيمه. تتغيّر الأمور اليوم نحو الأسوأ. وما يزيد الأمور سوءاً أنّ هذه الدعوات تنطلق من “سلم أهليّ” متوتّر.
قد يحدث أنّها المرّة الأولى التي تطغى فيها هواجس الجماعات الأهليّة على أيّ شيء وطني لبناني عامّ. صار علنيّاً الهمسُ الأهليّ الطائفي الذي كان سرّاً سابقاً، ومبرّر الجماعات هو تناقض “أسلوب العيش” بين هذه الجماعة وتلك. أصبحت الخطابات والهذر الخطابي عن “الوحدة الوطنية” لزوم ما لا يلزم في ظلّ الاندفاعة الرهيبة للجماعات الأهليّة التي يُمنّن بعضها بعضاً في ما له على البلاد والعباد.
يبرّر بعضهم الخلافات التي يباشرها أهل “الفدرالية” بموقع لبنان وتحوُّله إلى محميّة من محميّات إيران. هذا صحيح في الشكل، لكنّه قاتل بالمضمون. ينهي وضع كهذا إلى الأبد سرديّات الجماعات بعضها عن البعض الآخر، ومعايرة إحداها للأخرى. من يتمسّكون بدعوات الانتقال من لبنان الكبير إلى “لبنان الأصغر” تحكمهم “هويّات ضيّقة” ترى أنّ الفدرلة ستؤدّي إلى نمو اقتصادي وإداري مرتجى.
مع كلّ أزمة حكم في لبنان، أو كلّما اشتدّت “أزمة الحكم” في البلد المحموم بالأزمات والمحكوم بالتعدّدية، ينضح “المثقّفون بلا خبرة” بجهلهم، و”القانونيون غير الحقوقيين” بقلّة وعيهم، محاولين “تقسيم ما لا يقسَّم” إمّا عن سوء نيّة وإمّا عن جهل. وفي الحالتين يشكّلون خطراً على الكيان اللبناني الذي أبى التقسيم بحكم التاريخ والجغرافيا والهويّة.
فما هي الفدرالية وما هي أشكالها؟ ماذا يقول التاريخ وتجارب الدول؟ ماذا يقول الدستور؟ وكيف يقيّم أهل الاختصاص الدعوات المشبوهة التي تطفو على وجه المستنقع اللبناني المأزوم بين الفينة والأخرى؟
الفدرالية: تعريفها وأنواعها
“القانونيون غير الحقوقيين والمثقّفون بلا خبرة يشكّلون خطراً على لبنان لأنّهم يزعزعون شرعية الكيان اللبناني”. بهذه الكلمات يصف الدكتور أنطوان مسرّة، عضو المجلس الدستوري السابق في لبنان، واقع المطالبين بالفدرالية “الجغرافيّة” حلّاً لأزمات لبنان.
تسعى الفدرالية، كما يشرحها مسّرة لـ”أساس”، إلى معالجة نوعين من الإشكالات في الأنظمة الدستورية. فهناك فدرالية تعالج الإشكالات في البلدان ذات المساحة الجغرافية الشاسعة، مثل البرازيل والولايات المتحدة، التي يستحيل حكمها مركزيّاً، وهناك فدرالية لإدارة التعدّدية الثقافية، بالمعنى الاجتماعي، التي تتعلّق بالإثنيّة أو اللغة أو الدين أو العرق، كما في سويسرا وبلجيكا ولبنان.
ساهم مسرّة، رئيس كرسي اليونيسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار في جامعة القديس يوسف، في نقل النموذج اللبناني إلى العالم عبر العديد من المؤتمرات الدولية في سويسرا والهند وكندا وغيرها، وكانت التجربة اللبنانية تأسيسية لتطوير النظرية الفدرالية.
كيف كان لبنان مصدراً للتجربة الفدراليّة؟
هناك مقاربتان للفدرالية: المقاربة الجغرافيّة التي تعني تقسيم الوطن إلى مقاطعات، والمقاربة الشخصيّة التي تمنح المواطنين، حسب انتمائهم، الحقّ في أن يكون لهم قوانين خاصّة في بعض القضايا مثل النظام 9 و10 من الدستور اللبناني (الأحوال الشخصية).
يعود مسرّة بالذاكرة إلى افتتاح مؤتمر الفدرالية في سويسرا عام 1986، وهو المؤتمر الذي شارك فيه مع حوالي 40 من علماء الدستور. حينئذٍ استعرض هؤلاء العلماء الفدراليات بالمعنى الجغرافي، فيما كان لمسرّة موقف مغاير فاجأ الحاضرين، إذ قال إنّ “ما سمعته عن الفدراليات في مساحات جغرافية محدّدة هو مفيد وعلميّ، لكنّه إجراميّ، لأنّكم تفترضون أنّ الجماعات التي تريد ضمان حقوقها متمركزة في مساحات جغرافية محدّدة، لكن في حالات عديدة لا تكون الجماعات اللغوية الدينية الإثنية العرقية متمركزة في مساحة جغرافية محدّدة، بل مندمجة في مناطق عديدة، فما هي المعالجة في هذه الحال: التهجير، الانصهار القسري؟ هذا إجرام وأمر خطير”.
تشبه هذه المقاربات الطريقة الصهيونية القائمة على دين واحد في مساحة جغرافية محدّدة. يذكر مسرّة بعض النماذج التي فشلت في تطبيق الفدرالية الجغرافية في أنحاء مختلفة من العالم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الهند فدرالية جغرافية اضطرّت مرّات عديدة إلى أن تنشئ تقسيمات جديدة لأنّ الحدود الثقافية لا تلتقي مع الحدود الجغرافية. وفي نيجيريا تمّ تغيير التقسيمات الجغرافية أكثر من 10 مرّات لأنّ بعض الإثنيات ليست متمركزة في مساحة جغرافية محدّدة. ومثالاً على جرميّة المقاربة الجغرافية، نذكر مجزرة سان بارتيليمي في باريس بين الكاثوليك والبروتستانت في عام 1572، التي بسببها تمّ تهجير البروتستانت من فرنسا إلى سويسرا وألمانيا وبلجيكا لتنفيذ شعار “قانون واحد، دين واحد، ملك واحد”.
نشأة الفدراليّة الشخصيّة
يذكر الدستور اللبناني الفدرالية الشخصية في المادّتين 9 و10 منه، عندما تحدّث عن قانون الأحوال الشخصية، ولا يسمّيها فدرالية لأنّ الفدرالية نشأت في العلم الدستوري بعد السبعينيّات. الفدرالية الشخصية عربية وإسلامية بجذورها، كما يوضح مسرّة. ففي مفهوم الإسلام لا يُطبّق هذا الأخير على غير المسلمين، وهؤلاء كانوا يسمّون أهل الذمّة، وكلمة ذمّة باللغة العربية هي كلمة راقية، لكنّ التطبيقات كانت أحياناً سيّئة. ويُسمّى هذا التطبيق التعدّدية الحقوقية فيما كان لدى الغرب قانون واحد لكلّ المواطنين أينما كان تمركزهم الجغرافي.
طبّق التراث الإسلامي والعربي الفدرالية الشخصية طوال قرون، وأدار التعدّدية والتنوّع في المجتمعات العربية على نقيض النمط الصهيوني الذي يكرّس المساحة الجغرافية لدين محدّد. وفي هذا الإطار، يأسف الخبير الدستوري أنطوان مسرّة لعدم تدريس إدارة التنوّع في التراث العربي الإسلامي في أيّة جامعة من جامعات القانون الدستوري، فهذه الإدارة تعكس لنا تجربة كانت متطوّرة جدّاً في الماضي وقابلة للتطوير.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في أوروبا الشرقية، طُرحت إشكالية الفدرالية الجغرافية أو الشخصية، وبحث أوتو باور Otto Bauer مطوّلاً كيفية ضمان حقوق الجماعات الإثنية اللغوية الدينية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بوسيلة شخصية أو جغرافية، ودرس السيناريوهات في كلّ قرية وماذا يمكن أن يحدث.
مشروع حرب
يرى مسرّة أنّ “طرح الفدرالية واللامركزية في لبنان تعبير عن مسارَين خاطئين، الأوّل هو مسار اغتراب ثقافي، أي اغتراب عن الواقع اللبناني، والثاني هو مسار جهل بالتجربة اللبنانية وهروب من الموضوع الأساسي المتمثّل في أنّ أيّ تنظيم فدرالي جغرافي وأيّة لامركزية إدارية موسّعة يتطلّبان وجود دولة مركزية ذات صلاحيّات ملكية:
-احتكار القوى المنظّمة الذي يقتضي وجود جيش واحد لا جيشين.
-احتكار العلاقات الدبلوماسية، بحيث توجد سياسة خارجية واحدة لا اثنتان.
-فرض وجباية الضرائب.
-بناء السياسات العامّة.
كلّ هذه المعايير غير متوافرة في الدولة اللبنانية. أوجِد دولة مركزية لديها جيش واحد ودبلوماسية واحدة، كما في سويسرا، وافعل ما شئت، وإلّا تكون الفدرالية بهذه الحالة تقسيم البلد إلى دول مستقلّة تحت سيطرة خارجية ومشروع حرب”.
جهل واغتراب.. فهل من سوء نيّة؟
يجيب مسرّة أنّ البعض منهم سيّئ النيّة مصاب بعدوى الصهيونية، يريد مساحة جغرافية لدين معيّن، وهناك من هو حسن النيّة لكنّه جاهل ومغترب وغير مطّلع، فحتى اللامركزية الإدارية بغياب الدولة تذهب إلى تسلّط الزعماء في المناطق، والتحوّل من مركزية المركز إلى المركزية المحلية خطير على الشعب أكثر من مركزية الدولة.
يستغرب من طارحي الفدرالية الجغرافية في لبنان، لأنّهم يطرحون ما قد جرّبه لبنان بالفعل، عبر نظام القائمقاميّتين، حين اعتمدت الإمبراطورية العثمانية المعالجة الجغرافية في لبنان في 7/12/1842 لحلّ المشكلات القائمة، فتمّ تقسيم الجبل إلى قائمقاميّتين درزية ومسيحية تفصلهما طريق بيروت الشام. والدلالة على فشل هذه التجربة هو ما قاله القنصل الفرنسي Bouree حين سأله وزير خارجية بريطانيا لورد أبردين Lord Aberdeen بعد 3 سنوات من تقسيم الجبل عن أيّ المعالجتين أثارت قناعته، الجغرافية أم الشخصية، ليجيب القنصل: “فشلنا في تقسيم ما لا يقسّم والحلّ هو العودة إلى الوحدة”. هذه الواقعة مذكورة في مذكّرات القنصل بوريه، ويوردها مسرّة مع العديد من المقاربات والاختبارات في كتابه الجديد “الأنظمة البرلمانية التعدّدية: الأصالة والتجدّد في العلم الدستوري اللبناني” الذي سيصدر قريباً ويؤكّد من خلاله استحالة أيّة فدرالية جغرافية في لبنان.
مشروع صهيونيّ
خلال الحروب المتعدّدة الجنسيّات في لبنان بين 1975 و1990 كان هناك خطة استراتيجية مبرمجة وفق الخطة الصهيونية. وقد ذُكرت في مراسلات موشيه شاريت (ثاني رئيس وزراء لإسرائيل من الفترة 1953 إلى1955 )، وبن غوريون (أوّل رئيس وزراء لإسرائيل). وهي المذكّرات التي صدرت ترجمة لبعض مقاطعها في جريدة السفير وتقول إنّ موشيه شاريت قال لبن غوريون إنّ الطوائف في لبنان علاقاتها مندمجة جدّاً ولها تاريخ ويصعب فرزها، فأجابه بن غوريون: إذا كان هناك عنف طويل الأمد فالعلاقات تنفصل، فكانت النتيجة 15 سنة متاريس ومعابر وفرزاً وتهجيراً سكّانياً وتقسيم بيروت إلى شرقية وغربية من أجل تطبيق الفدرالية الجغرافية، لكن فشلوا.
يميّز مسرّة بين نوعين من التعدّدية. تحمل الأولى المعنى الديمقراطي العامّ وتتمثّل في الأحزاب وغيرها، والثانية تحمل المعنى الثقافي وتتجسّد في الإثنية، اللغة، العرق، والدين، وتترجم عبر مؤسّسات اجتماعية، استشفائية، رياضية، وهي نفسها تنقسم إلى تعدّدية ثقافية مغلقة (الانغلاق على الذات والبيئة) وتعدّدية ثقافية مندمجة، كما في لبنان. “وهذه التعدّدية المندمجة هي التي خلّصت لبنان ودائماً تخلّص لبنان، وهي الهويّة اللبنانية التي لم تستطع الحرب أن تدمّرها على مدى 15 سنة، ولن تستطيع، فالهويّة اللبنانية هي هويّة اللبنانيين الذاهبين والعائدين بين البيروتَيْن خلال 15 سنة من المتاريس والعنف”.
لبنان العصيّ على الفدراليّة
يؤكّد الوزير السابق الدكتور خالد قبّاني لـ “أساس” أنّ الفدرالية ليست حلّاً ملائماً للبنان لا من قريب ولا من بعيد على الإطلاق، “فلبنان له تاريخ قائم على العيش المشترك الذي هو صمام الأمان والضمانة الحقيقية للاستقلال والسيادة والحرّية، ولبنان حريص على هذه المفاهيم والقيم التي عاش عليها منذ أن كان لبنان ولا يمكن أن يفرّط بها”.
ويضيف قبّاني أنّ “الحلّ لا يمكن أن يأتي من خارج هذه القيم، بل عبر البحث عن حلّ يؤكّد هذه الوحدة والعيش المشترك، فلا يمكننا أن نذهب إلى صيغ من شأنها أن تجزّئ لبنان وأن تباعد بين اللبنانيين، فهذا لا يؤدّي إلى حلّ الأزمات التي يعانيها لبنان، بل إلى مزيد من الانقسام والتشرذم. واللبنانيون تجاوزا هذه الاقتراحات، ذلك أنّ الفدرالية لا يمكن أن تكون حلّاً لبلد قائم على التنوّع والتعايش المشترك، فلا يمكن أن يقوم لبنان على كانتونات ضمن مناطق جغرافية معيّنة، فكيف نريد أن نقسّم ما جمعه الله والتاريخ. لنراجع مقدّمة الطائف التي تقول “لا تجزئة ولا توطين ولا تقسيم”، هذا هو الدستور وعلينا أن نتقيّد به ونحترم أحكامه التي توافَق عليها اللبنانيون، وبالتالي نريد كلّ ما يعزّز الوحدة بين اللبنانيين ولا نريد أن نتبنّى صيغاً تعيدنا إلى حرب أهلية جديدة”.
الحكم غير النظام
من جهته، يرى وزير العدل السابق الدكتور إبراهيم نجّار أن لا بدّ من عدم الخلط بين النظام والحكم، وأنّ الحكم هو الذي تعرقَل وتعثّر في مرحلة ما بعد الطائف، ويلفت إلى أنّ “اللبنانيين مقتنعون بأنّ تحقيق التقسيم في لبنان هو مشروع فتنة داخلية وخارجية، يُضطرّ فيها لبنان إلى التوجّه إلى عكس ما يفرضه التاريخ والعيش الواحد، ويستتبع ذلك حروباً وويلات ودماراً”، ويضيف في حديث لـ”أساس”: “لقد دفعنا ثمناً باهظاً من أجل خيار وحدة التراب، وأقرّ الجميع بالمناصفة، وتمّ استبدال العدديّة السكانية بالتعدّدية الطائفية، وبات لبنان موطناً لميثاق العيش الواحد، ورسالة يحتذى بها في عالمنا الممزّق اليوم”.
يتابع نجار كلامه بالقول إنّ “اللبنانيين يعرفون أيضاً أنّ الفدرالية مشروع يتطلّب موافقة المكوّنات اللبنانية عليه، لأنّها عقد اجتماعي وسياسي ومناطقي. والفدرالية الدينية والطائفية قائمة أصلاً بعدما بلغ عدد الطوائف المعترَف بها قانوناً 18 طائفة. لكن يبقى الحلّ أو الضمانة للّبنانيين حكماً قويّاً ومركزيّاً قادراً وعادلاً يستطيع فرض هيبة دولة المؤسّسات والارتكاز على جيش قوي لا يقاومه جيش آخر على أرض لبنان، لكنّ الحكم في لبنان تعثّر وتعرقل، ولا سيّما في السنوات الأخيرة، نتيجة هفوات كبيرة في صياغة دستور ما بعد الطائف، وأضحى لبنان مرتعاً سائباً يبحث عن حكم يلملم كلّ تلك التناقضات. وفي حين أن لا أحد يريد تقسيماً جغرافياً ولا تعطيل دور رئيس الجمهورية، لكن في كلّ مرّة نكون على عتبة انتخاب رئيس جمهورية يكون التوجّه إلى التوافق على مرشّح من الصف الثاني لا يهدّد أحداً ولا يستطيع كسر عنقود العقد اللبنانية، فيما نمرّ في ضائقة مالية وحضارية وتراثية قلّما شهدت مثلها الأمم”.
إذاً سقطت الفدرالية الجغرافية في لبنان بحكم التاريخ والجغرافيا اللبنانية، وبحكم التجارب والتعدّدية المندمجة التي يتمتّع بها القسم الأكبر من اللبنانيين، وتبقى طرحاً هشّاً يُلوَّح به مع كلّ أزمة حكم.
نهلا ناصر الدين