اجتماعية الإنسان وقدمها

يقع الإنسان في جدول الحيوانات المتجمعة، أي التي يعيش أفرادها ضمن جماعات (كالنحل والنمل والغزلان والذئاب…)، وسواء في درجة الانحطاط أو الارتقاء، كان الإنسان دائماً في حالة اجتماعية، فالاجتماع إذاً هو صفة ملازمة للإنسان، والمجتمع هو المكان الطبيعي للإنسان والضروري لحياته، وبما أن الإنسان وعلى مر الأزمان لم يكون إلا مجتمِعاً، يمكننا القول أن الاجتماع الإنساني قديم قدم الإنسانية.

    إن الحيوانات والحشرات التي لا تعتني ببيوضها، تضع عدداً كبيراً من هذه البيوض، ولا يكون للذكر أي دور في حمايتها أو الإعتناء بها، لأن دوره في حفظ النّوع ينتهي عادةً باللّقاح، وعند الإنسان يختلف تطبيق هذا المبدأ، وبالتالي فإنّ الاجتماع في الكائنات الحية أنواع، وأنّ تطبيق الاجتماع الإنساني على مظاهر التجمهر في الحشرات والحيوانات الدّنيا أو بالعكس غلط فادح، وإن كان الإنسان يتفق وسائر الكائنات الحية في مبدأ المحافظة على النوع وخدمة النسل فإنّ ظروف تطبيق هذا المبدإ عند الإنسان تختلف عنها عند الحيوان.

    إنّ خاصية حفظ النوع، وخاصية الغذاء، هما الأساس لدى الحشرات، أما الإنسان، فإنّ اجتماعه لا يصح أن يقابل بتجمهر الحشرات، لأنه غير مضطر إلى التجمهر لإقامة النسل، وهو ليس من الحيوانات التي يكون التجمهر وكثرة النتاج أقوى أسباب بقائها، فخصائص الإنسان الفيزيائية، كانتصابه على قدميه الذي أطلق ليديه حرية الاستعمال، تؤهله للانفراد أو الازدواج في حفظ نوعه، بما تجعل له من الامتياز والأرجحية على خصومه، فليس الاجتماع البشري، إذاً من الضرورات البيولوجية لحفظ النوع وفاقاً لطبيعة الحال.

    إذا نظرنا إلى الفوارق الاجتماعية في الاجتماع الإنساني، نجد ظاهرتين موجودتين لدى الإنسان حصراً، هما استعداد كل فرد لبروز شخصيته، واكتساب الجماعة شخصيتها التي تكونت من مؤهلاتها ومن خصائص بيئتها، وهنا تبرز صفة خاصة بالاجتماع البشري، هي الفكر الذي له كل الأهمية في الحياة والاجتماع الإنسانيين، وهذه الصفة تبطل كل مقابلة اجتماعية بين الإنسان والحيوان، وبالتالي فإنّ اتخاذ ظاهرة التجمع أساساً لبناء أحكام عامة تظلق على التجمهر الحيواني والتجمع الإنساني، لا يأتي بأي فائدة تذكر.

    إنّ الفائدة الأساسية التي يمكن استخراجها من دراسة حياة الحيوان الاجتماعية، هي في علاقته بمحيطه، فأفعاله ناتجة عن تفاعل ثلاثة أضلاع هي: الجسم، النفس والمحيط، فإذا كانت حياة الحيوانات المتجمهرة تجري ضمن هذا المثلث، فحياة الإنسان أيضاً تجري ضمنه، ومن هنا نتوصل إلى تعيين الفوارق بين هاتين الحياتين، وكيف يمكننا فهم المحيط فيما يتعلق بالظواهر النفسية كالوعي والإحساس والإرادة والفكر…، ورغم أهمية هذه الظواهر في حياة الإنسان الاجتماعية، لا يمكن أن نجدها لدى الحيوان، وبالتالي نستنتج أن موضوع استكشاف علم الاجتماع يختلف في الإنسان عنه في الحيوان.

    رغم وجود مظاهر اجتماعية لدى الحيوان، تشبه معاني ظواهر اجتماعية إنسانية، كالاستبداد والتعاون والتفاهم والرقص واللعب والتملك…، لا يبرر التكلم عن حياة الحيوان الاجتماعية بالاصطلاحات المستعملة للتعبير عن حياة الإنسان الاجتماعية، ومن الخطأ اعتبار مظاهر من عالم الحيوان معادلة لمظاهر عالم الإنسان، وإيجاد علاقة بينهما عن طريق بعض المشابهات الظاهرية العامة، واتخاذ ذلك أساساً لإيضاحها فيما يختص بالإنسان، فاتخاذ الأمثلة الاجتماعية للإنسان من الحيوان هو خطأ كبير، ويجب أن يكون على العكس، أي من الإنسان للحيوان، على الرغم من أنه في عالم الإنسان الاجتماعي، يوجد الكثير من مظاهر عالم الحيوان الاجتماعي، وعند قولنا “هذا نجده أيضاً في الحيوان” يزيدنا رضى واقتناع، ولا يُعقل أن تكون هيئتنا الاجتماعية تطبيقاً لأمثلة مأخوذة من عالم الحيوان.

محمد جميل عليان