يلحظ أي متابع للتاريخ السياسي العالمي، أن الدين نفسه لم يشكّل حقلا سياسيا بحد ذاته، بل حقلا للتوظيف السياسي من قبل السلطات والقوى السائدة عبر التاريخ وعند كل الجماعات البشرية، وما يبدو مفارقة هنا أن أوروبا التي دشنت نظريات العقد الاجتماعي مقابل العقد الإلهي والعلمانية، الصافية أو المشوبة برواسب من الماضي، هي التي أعادت التوظيف السياسي للدين خارج حدودها القومية.
وقد كان نصيب العرب والمسلمين ومنطقة الشرق الأوسط وبعض بلدان أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا، نصيبا وافرا من هذا التوظيف، ومن النادر أن تجد حركة سياسية دينية منذ القرن التاسع عشر في المناطق المذكورة بعيدا عن أقلام الاستخبارات الأوروبية.
فماذا عن هذه الظاهرة وتجلياتها نظريا وسياسيا.
أولا، على الصعيد النظري:
- تصورات مهدي عامل وتمييزه بين الدين كتعبير أيديولوجي – اجتماعي للمراحل ما قبل الرأسمالية، وبين الطائفية كظاهرة اجتماعية – أيديولوجية من ظواهر الرأسمالية، وبالتالي فكل ما يبدو قراءات أو نقاشات سياسية حول إمكانية قيام دولة دينية في المراحل الرأسمالية، هو في حقيقته أقنعة أو حالات طائفية لتصورات وقوى سياسية رأسمالية.
- تصورات ماركس حول أشكال الاغتراب وتمييزه بين الاغتراب الانثروبولوجي ما قبل الرأسمالي وبين الاغتراب السلعي في المرحلة الرأسمالية، ومن المفهوم أن الاغتراب من أكثر المفاهيم اتصالا بالموقف من الدين الذي تأخذه تصورات راديكالية إلى تأويلات متطرفة بشأن مفهوم الاغتراب نفسه.
وبالتالي فثمة تناقض نظري إشكالي بين الدعوة إلى سلطة سياسية حديثة وبين ظاهرة اغتراب انثروبولوجية ما قبل رأسمالية.
- التصورات الفلسفية حول جدل السيد والعبد، وخاصة عند هيجل ونيتشه.
- ملاحظات المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، التي وردت في مجمل مشروعه الفكري حول ضعف الشروط الموضوعية الاجتماعية الاقتصادية للدولة الحديثة واختلاط المفاهيم الحديثة مع الثلاثية ما قبل الرأسمالية، القبيلة والغنيمة والعقيدة، مما يجعل فكرة السلطة الدينية فكرة إشكالية ومهزوزة من الزاوية الموضوعية.
ومثل ذلك آراء مفكر مغربي آخر، هو عبد الله العروي حول الفوات الحضاري، بمعنى أن العرب فقدوا شروط التحول من دولة برجوازية قومية على غرار أوروبا، بسبب الركود العثماني نفسه الذي ينظر له بعض الإسلاميين بصورة مغايرة ويحنون إلى استعادته في العصر الامبريالي.
- المشترك بين التأويلات الدينية المختلفة وعند كل الأديان، التي تربط الخلق والتاريخ والبشر الأوائل بفكرة الخطيئة، بقدر ما تربطهم باستخلاف الله في الأرض، فيصبح الوجود البشري على مدار التاريخ شكلا من الندم على الخطيئة، وتصبح السلطة زمنية أم روحية أداة لترجمة هذا الندم.
ثانيا، على الصعيد السياسي:
كما ارتبطت نظريات العقد الاجتماعي بهزيمة فكرة الخطيئة كمواز للمعرفة، ارتبطت فكرة الدولة الحديثة بهزيمة وتفسخ الحقبة الإقطاعية وآخر إمبراطورياتها ممثلة بالإمبراطورية الجرمانية المتحالفة مع الفاتيكان، وظهور الدولة القومية كتعبير من تعبيرات الثورة البرجوازية ولا سيما ما بات يعرف بدولة وستفاليا.
ومن مزايا هذه الدولة استبدال (العقد الإلهي) بالعقد الاجتماعي وأركانه ومنها العلمانية، ولم يقتصر هذا التحول على الشأن الأوروبي، بل وجد له مكانا في أوساط إسلامية مثل الشيخ الأزهري علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم الذي فصل من الأزهر بسببه، ولا سيما تأكيده على أنه لا سلطة سياسية في الإسلام، متكئا على وثيقة المدينة التي وضعها الرسول لإدارة يثرب، ومثله علي عبد الرازق وخالد محمد خالد ووائل حلاق في الدولة الإسلامية المستحيلة.
التوظيفات السياسية في اليهوية:
- الشعب المختار مقابل الغوييم أو الأغيار الذين يساوون البهائم، وقد اشتق الخطاب الكولونيالي الاستعماري من ذلك ثنائيته العنصرية المعروفة: متمدنون ومتحضرون مقابل البرابرة، وذلك غطاء لاستعمار ونهب شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد وضع الخطاب الكولونيالي لنفسه خيارين إزاء هذه الشعوب بعد توصيفها الانثروبولوجي العنصري (البرابرة)، الإبادة التي أتت على عشرات الملايين من الهنود الحمر والآسيويين والأفارقة، وخيار الترويض (التعبير نفسه لا يخلو من دلالات حيوانية مثل تدجين وترويض) وبما ينسجم مع الخطاب اليهودي العنصري، الغوييم – البهائم.
- الربوية اليهودية كما هي في تشخيص ماركس في كرّاسه المبكّر (المسألة اليهودية) وفي عمله الضخم اللاحق (رأس المال)، جوهر الرأسمالية المالية (الامبريالية)، ولا تزال البيوتات المالية الأكبر في العالم الرأسمالي التي تتحكم بالمفاصل الحيوية لهذا العالم، بيوتات يهودية مثل روتشيلد وروكفيلر والمؤسسات التي تديرها مثل البنك وصندوق النقد الدوليين ومنتدى دافوس وبيبلدربيرغ.
التوظيفات السياسية في المسيحية:
وقد طالت هذه التوظيفات أكثر من مذهب من المذاهب المسيحية بالاستناد إلى التجاذبات القديمة التي شهدتها المجمعات المسكونية كما إلى نظرية السيفين وأفكار أغسطين في القرن الرابع، وأفكار توما الاكويني الذي وظّف أرسطو في مقارباته بالإضافة إلى الأفلوطينية التي شكلت مرجعية أساسية عند العديد من التأويلات الدينية.
بالإضافة إلى الغطاء البروتستنتي لنشر الرأسمالية كما لاحظ ماكس فيبر ولتبرير المشروع الصهيوني بفكرة الألفية والهرمجدونية، فقد تم توظيف الفاتيكان ضد روسيا والمعسكر الاشتراكي وخاصة البابا يوحنا بولس الثاني البولندي بالتزامن مع توظيف الجهاد الأفغاني كما سنرى.
التوظيف السياسي للإسلام الأطلسي:
قبل أن نتحدث عن التوظيف الكبير للإسلام الأطلسي ومحاولاته اختطاف الشارع السنّي، نشير إلى التوظيف الآخر في الأوساط الشيعية المتأمركة مثل جماعة الإسلام الشيعي الانجلو سكسوني والثورات الملونة في العراق ولبنان، والأهم توظيف دولة بكاملها في سياق مشابه هي أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية.
أما بالنسبة للأوساط السياسية التي اختطفت الشارع السنّي، فقد بدأت هذه التوظيفات عبر أقلام الاستخبارات في المطابخ الرأسمالية الانجلو سكسونية من شركة الهند الشرقية إلى شركة قناة السويس والشركات الأخرى في محميات النفط والغاز المسال.
فمع دخول تركيا الإقطاعية في حالة الرجل المريض وإطلاق لندن استراتيجية وراثة المساحات الشاسعة للإمبراطورية العثمانية الإقطاعية، انتبهت أقلام الاستخبارات المذكورة ودوائر الاستشراق التابعة لها، لأهمية الحركة الوهابية المتحالفة مع آل سعود في الدرعية في نجد، وأقامت معها صلات وثيقة وأمدتها بالأسلحة لإطلاق غزوات تكفيرية في الأطراف الشامية والعراقية التي كانت تحت الاحتلال العثماني.
وقد أظهرت مذكرات بيركهارت الآثاري السويسري الذي جندته المخابرات البريطانية باسم الشيخ عبد الله اللوزاني ضمن القنوات السرية مع الحركة الوهابية، الكثير من الفوائد المشتركة بينهما والتي ستتحول مع مرور الزمن إلى تعاون راسخ عبر عشرات الجماعات الأصولية ويهود متأسلمين مثل الشيخ محمد أسد (ليوبولد فايس).
يشار هنا إلى أن أغلب المرجعيات الفكرية للإسلام الأطلسي هي من أصول يهودية مثل برنارد لويس في كتابه (لغة الإسلام السياسي) ومشروعه حول الانبعاث العثماني، ومثل نوح فيلدمان الذي دعا إلى إعادة الاعتبار للتجربة الإسلامية ودعمها وتحدث عن أسماء بعينها مثل الغنوشي والقرضاوي والهويدي وغيرهم، ومثل شارلي بينارد وفيلسوف المحافظين الجدد، ستراوس، الذي ربط بعض المفكرين الإسلاميين بمدرسة ابن ميمون اليهودي.
أيضا وفي وقت لاحق وبالإضافة إلى الإسلام الوهابي الخشن انتبهت دوائر المخابرات الانجلوسكسونية إلى أهمية الإسلام السياسي الناعم تحت عنوانين: الإصلاح كما مثله الأفغاني ورشيد رضا (صاحب مجلة المنار) وأشكال من التصوف السلبي ردا على حركات المقاومة الصوفية المسلحة وخاصة في شمال أفريقيا العربية.
وكما يذكر المؤرخ البريطاني كورتيس في كتابه (تآمر بريطانيا مع الأصوليين)، فإن لندنستان كما يسميها وبالتنسيق مع الشق الأمريكي الآخر من الامبريالية الانجلوسكسونية، أولت اهتماما كبيرا لجماعات الإسلام السياسي الخشن والناعم معا في الحرب ضد موسكو والقومية في الشرق الأوسط.
وبحسب كورتيس، كما لعب الأصوليون التكفيريون دورا معروفا في تفكيك الإمبراطورية الإقطاعية للرجل العثماني المريض تمهيدا لوراثة الاستعمار البريطاني الفرنسي لها، كرروا الموقف نفسه لإطلاق موجة تفكيك الدول العربية واستبدال الخطابات الجامعة، الوطنية والقومية، بخطابات طائفية مزقت النسيج العربي على أسس مذهبية.
أيضا وكما لعب الوجه الآخر من إسلام الكولونياليات الدور المعروف في نهايات القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، استخدمت أشكال جديدة منه على غرار الغنوشي وأردوغان، ولعل الأخطر في كل ذلك ما تعلق بالخطاب السياسي نفسه، وهو إعادة إنتاج خطاب الاستشراق الاستعماري القديم المستمد من التوراة (الشعب المختار مقابل الأغيار)، وهو ما ظهر جليا في تصوير العربي والمسلم كقاطع رؤوس كما في حالة داعش وجبهة النصرة وغيرهما.
د. موفق محادين