الاستخدام الصحيح والخاطئ للتكنولوجيات

«تطبيق المعرفة لتحقيق أهداف عملية»، هذا هو التعريف المبدئي للتكنولوجيات، والمعرفة تجريبية مرتقية بطبيعتها، وقابلة للتكرار مخبرياً و واقعياً، ضمن شروط الاستخدام، فالسيارة تكنولوجية قاتلة، إذا لم يتم استخدامها حسب قانون السير والمرور، مضاف إليها القيّم الخيرية والجمالية التي ينضح عنها أي اجتماع أو تجمع أو مجتمع بشري، يطلب البقاء والاستمرار. ومن نافل القول تكرار ذكر أن التكنولوجيات فرعين، واحد مشخص ملموس، كالبراد والغسالة والسيارة والبندقية والصاروخ، إلخ، والثاني غير مشخص ولكنه ممارس في الحياة، مثل المجتمع و الدولة والمؤسسات والأحزاب والنقابات والقوانين، وأيضاً إلخ، وكلا الفرعين مرتبطين بشروط الاستخدام، بحيث تأتي نتيجة هذا الاستخدام نافعة، أو ضارة، حسب الخضوع الدقيق لشروط هذا الاستخدام، ونتائج الانتفاع والتضرر، معلنة وواضحة وحيادية، ولا يمكن امتداحها أو تثريبها، إلا من خلال القيم الإنسانية المنبثقة من الحق والخير والجمال، بما يعني أن مستخدمي التكنولوجيات يجب أن يكونوا عقلاء وفي نفس الوقت أسوياء قيمياً، لكي  يعطوا للمسؤولية حقها، فليس من ملائكة على الأرض، والمسؤولية تعني إعلان المسؤول مسؤوليته عن نتائج استخدامه لهذه التكنولوجيات، التي تزداد كل يوم حداثةً عن اليوم السابق، وهذا ما يعيدنا إلى المربع الأول، أي إلى المعرفة بمستجدات هذا العالم الحالي المعرفية، وبالتالي الاطلاع على شروط تشغيل التكنولوجيات، بكل إخلاص وعزيمة صادقة، بشرط قابليتها للتصويب والمحاسبة وإعادة التصويب والمحاسبة، في عملية تداولية، تكرس الأعلى كفاءة في تحقيق أهداف هذه التكنولوجيات، بمعنى إثبات الالتزام بشروط التشغيل.

المشكلة أو المشكلات الكبرى التي نواجهها نحن الناطقين بالعربية، هي النتائج الضارة لتشغيل هذه التكنولوجيات، ليس بسبب عدم استيعاب شروط التشغيل، بل بسبب التدليس والمواربة في تطبيقها، مما يصنع خللاً قيمياً، يطيح بالقيم الإنسانية، التي توافقت عليها الشرائع الاجتماعي منذ أقدم العصور، حيث ولدت أولى التكنولوجيات المشخصة وغير المشخصة، تعبيراً على إرادة البقاء والاستمرار، هذه الإرادة التي تسبب بارتقاء التكنولوجيات حتى يومنا هذا، بما فيها التكنولوجيات الضارة مثل التسلح والقنابل على أنواعها، ولكن الأهم أن لا تكون هذه التكنولوجيات الضارة هذه وبالاً على أعضاء الاجتماع البشري المحلي، بل في سبيل الدفاع عن استمراره وسعادته، حسب ما تقتضيه التحديات على ظهر هذا الكوكب. هذه المشكلة القيمية هي ما طبع حالات استخدام التكنولوجيات، دون الأخذ بعين الاعتبار نتائجها المستقبلية، على إرادة البقاء والاستمرار، المطلب الطبيعي (حق) لكل وجود بشري فردي أو جماعي أو مجتمعي، وذلك عبر نفي المسؤولية عن المسؤول عن الإخلال بشروط التشغيل، فالممارسة السياسية العامة لأعضاء المجتمع، هي من شروط تشغيل تكنولوجية الدولة، وتجاهلها يوصل إلى حمامات دماء، وخراب للبنى التحتية، وكوارث قيمية كنتيجة للصراع على أسباب الحياة، حيث تفقد الكرامة الإنسانية كحق هو صنو للحق الطبيعي بالحياة، تفقد هذه الكرامة قيمتها، مما يؤدي حتماً إلى انعدام مبرر وجود تكنولوجية الدولة، ويصبح الإحتكام إلى البدائية التكنولوجياتية والقيمية، مسألة تحصيل حاصل، كالفساد والرشوة وسرقة المال العام والإعتقال والتهديد بالقتل وكل هذه، وكلها تكنولوجيات منحطة بالإضافة إلى كونها هدامة، تخسف بأرضية الاجتماع البشري في حاضره ومستقبله.

في صلب استخدام التكنولوجيات ( تصنيعاً أو استثماراً فقط)، هناك عملية الصيانة، ليس لأن المشغل لم يمتثل لشروط التشغيل فقط، بل لأن الفضاء المحيط بهذه «الآلة» فضاء متبدل، يقتضي تبديلاً في عمل «الآلة» نفسه، فوجود «الآلة» يضيف منتجات إيجابية أو سلبية، تعدل من سلوك المحيطين بها، لتجعلهم أناساً جدداً، بمتطلباتهم الناتجة عن تطورهم الذي أفضى إليه استخدام هذه التكنولوجيات، التي تحتاج إلى صيانة في الحالين معاً، وهما استخدام هذه التكنولوجيات الصحيح والخاطئ، وكذلك الواقع الجديد الذي صنعته، وخارج عمليات صيانة ذكية توازي بذكائها التكنولوجيا الصانعة للتكنولوجيات، يبقى لتعفن هذه التكنولوجيات مكان آمن لتكاثر الفيروسات والبكتريا والصدأ، ومرتسمه في الواقع فوضى وعنف وفساد ومظلوميات. ولذلك يبدو (لو شخصّنا ذلك) أن التداول على تشغيل هذه التكنولوجيات وصيانتها من الضرورات الحاسمة، من ناحيتي تحسين الأداء بشروط التشغيل، وكذلك من ناحية منتجات هذه التكنولوجيات، ومعناه في الواقع المجتمعي هو تداول السلطة، ما يعني أن التنافس هو في تحسين العناية بشروط التشغيل والصيانة، و ليبدو الاستقرار المدعى ليس باستقرار، بل تنازل دائم عن استعمال منتجات هذه التكنولوجيات، ما ينفي الحاجة إليها وبالتالي موتها، وهو ما يمكن تسميته الموات المجتمعي العام، وهو ما يؤدي إلى إضعاف الاقتصاد والثقافة والشرف المجتمعي، وطبعاً في مقدمتها السياسة، فإزالة سلطة ضعيفة ومركزة في مكان واحد أو في شخص واحد، أسهل بكثير من إزالة سلطة موزعة بمساواة على الجميع في خدمة مصالحهم هم، وهذا ما يدعم الحق الأساسي للبشر في هذه الحياة، وهو حق الوجود والاستمرار، وهذا لا ينضوي تحت عنوان إعادة اكتشاف العجلة، بل بتطوير الاستفادة، عبر الارتقاء بالعجلة نفسها، بمحاولة تنسيبها للعصر التكنولوجي والتكنولوجياتي الحالي.

غض النظر عن هذه التكنولوجيات، يمكن اعتباره جريمة أو حتى خيانة للمجتمع، فهي صنعت لأجل تطويل عمر الإنسان والتمتع بمنتجاتها الأخرى، ( لا يحتاج الإنسان اليوم لثلاثة أشهر للوصول من دمشق إلى روما مشياً أو على دابة مثلاً، وهذا وبواسطة التكنولوجيات يمكن للإنسان أن يوفر ثلاثة أشهر من عمره) بمعنى أن العنف والفساد الناتجان عن تخريب التكنولوجيات مثلاً، هما تقصير حتمي لعمر هذا الإنسان الذي سوف يفتقد فوقها الكثير من محققات إنسانيته، وبهذا يبتعد عنه الانتصار في أي تحدٍ حياتي مهما كان صغيراً، وبهذا تحديداً لا توجد احتياجات إنسانية ثانوية، أو درجة ثانية أو ثالثة في أولويات العيش المستمر، فكل حاجة لدى الكائنات المجتمعية، هي حاجة تؤكد إنسانيته وتؤكد إصراره على المشاركة كعضو مجتمعي في عمليات البقاء والاستمرار.

هذه التكنولوجيات، محايدة بطبعها طالما حافظ الكائن المجتمعي على استخدامها وفق شروط استعمالها، فهي تقول الصدق منسوباً إلى معايير واضحة ومعلنة ومكتوبة، كي تصير على مسافة واحدة من جميع أعضاء المجتمع (حصراً)، بما يحقق المساواة التي هي ليست منحة من جهة أو أحد، بل هي أحد الشروط التأسيسية لديمومة عملية صناعة المجتمع وارتقاءه.

التكنولوجيات (المشخصة والمجردة) هي قدر الإنسان في هذه الدنيا منذ أقدم العصور، وبقاءه واستمراره، منوط ببقائها والمحافظة عليها، والإخلاص لها في عمليات الصيانة الارتقائية، وإلا أصبح هذا «الإنسان» خارج الاحتدام الإنتاجي لهذا العالم، المحصور أصلاً في كرة أرضية لا يستطيع الفكاك منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *