ثقافة التفاهة في زمن «اغتصاب العقل»!

يعدّ «عصر التفاهة» ظاهرة اجتماعية وثقافية معقّدة في المجتمعات الحديثة. تزامن هذا العصر مع التقدم التكنولوجي الذي رافقه انتشار واسع للمعلومات والأفكار عبر الإنترنت.

يشير مصطلحا «ثقافة التفاهة» و«اغتصاب العقل»، وتعميمهما وفرض سياقهما في مجتمعاتنا، إلى أننا دخلنا في عصر السطحية الفكرية، وهذه السطحية ستصبح معياراً سائداً تحلّ محل القيم والعمق الفكري والمعرفة الحقيقية.

ففي «سيكولوجيا السيطرة على التفكير وإبادة العقل وغسيل الدماغ»، «يغتصب» العقل وتسود التفاهة والوهم على الحقيقة، وتصبح الثقافة سلعة تخضع لقوانين السوق ولا تبحث عن القيمة الفكرية والتنويرية بقدر بحثها عن الربح والخسارة، فتتحوّل إلى سلعة للتسلية وتحقيق الربح السريع، بعيداً من الوطنية والقيم الإنسانية والإبداع.

ومن يتابع وسائل التواصل يرَ بوضوح انتشار «الكثرة» التي تروّج لـ«المحتوى التافه» على حساب «القلة» التي تروِّج للعلم والأدب والجد والعمل، خصوصاً أن التفاهة لها «أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية». وهذا يذكر بما نادى به مونتسكيو حول أهمية «صون الحرية عن الابتذال».

لكن، ما هي ظروف نشأة «ثورة التفاهة» وأهمّ خصائصها وتحوّلاتها؟ وبأيّ معنى يمكن أن نعدّ «ثورة التفاهة» قضيّة راهنة؟ وما هي صلاحيّة المفهوم في تحليل الوضع السياسي العربي الراهن وتحوّلاته؟ وهل يمكن قياس «الثورة التافهة» الناشئة في العالم على الوضع السياسي العربي الحالي؟ وما هي مظاهر ذلك؟ كيف ارتبط المفهوم بما يمكن أن نسمّيه «الكونيّة الزائفة في مقابل» الكونيّة الحقيقيّة؟

لقد تم إنفاق مئات الملايين لإنتاج برامج تافهة والهروب من الواقع، بحيث يصبح التسفل أسهل من الترفع… ويصبح المحتوى التافه محل الاهتمام والتطوير وتسويقه لأفراد المجتمع، وهذا أدى إلى زعزعة ثوابت مجتمعاتنا العربية وقيمها وأخلاقها. لكن، من يقف خلف اغتصاب العقل في عالمنا العربي ونخر ثقافة مجتمعاته اليوم؟

سؤال يتبادر إلى ذهننا في ضوء هجمة ثقافة الليبرالية المتوحشة، وتحوّلها إلى سلطة كاسحة للتدخل والسيطرة والتوجيه في المجتمعات ذات السيادة.

انتشرت ثقافة التفاهة في بعض المجتمعات، خاصة بين الأجيال الشابة التي أخذت تسعى وراء التسلية السريعة والهروب من القضايا العميقة، ولم تعد الثقافة تشجع على التفكير العميق والتحليل، بل أصبح الترفيه السريع والمحتوى السطحي هو المسيطر، وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في التركيز على المظاهر والترويج لمحتويات تافهة غير مفيدة، وانشغل الأفراد بقضايا فارغة؛ ما أبعدهم عن الاهتمام بالقضايا الجوهرية التي تتعلق بالمجتمع والفكر والتطور.

علاوة على ذلك، انتشرت ظواهر مثل الكذب، والخداع، والانتهازية، بشكل واسع في العديد من المجالات. كما أن انتهاك المبادئ الأخلاقية أصبح أمراً غير مستنكر في بعض الأحيان، بل يُنظر إليه أحياناً كمجرد وسيلة للبقاء والنجاح في ظل ضغوط الحياة العصرية.

ويعد «عصر التفاهة» ظاهرة اجتماعية وثقافية معقدة في المجتمعات الحديثة. تزامن هذا العصر مع التقدم التكنولوجي الذي رافقه انتشار واسع للمعلومات والأفكار عبر الإنترنت، ما جعل من السهل الوصول إلى محتوى قد لا يرقى إلى مستوى الجدية. لقد أصبحت التفاهة اليوم صناعة قائمة بذاتها تسهم في إضعاف القيم الفكرية والتربوية، وتؤثر على نحو سلبي على جودة الحياة الفكرية والاجتماعية.

لم يأت انتشار التفاهة وتعميمها من فراغ، إذ يمكن اعتبار انتشارها انعكاساً لحالة من السطحية الثقافية في المجتمع، حيث يتم تفضيل «الترفيه السريع» و«المحتوى السطحي» على الإنتاج الفكري العميق أو المحتوى الهادف. ويعد هذا الانتشار ظاهرة معقدة تتأثر بعوامل متعددة، وتتطلب مكافحتها جهوداً مشتركة ومستمرة من الأفراد والمجتمع والمؤسسات، في مقدمتها التفكير النقدي وتوظيف مهاراته بفاعلية في المواقف المختلفة التي تبرز فيها التفاهة ومظاهرها.

في كتاب «حضارة الفرجة» للبيروفي ماريو بارغاس يوسا، يشير إلى انحسار الثقافة بمفهومها التقليدي، وانتشار ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي التي ترتكز على سيطرة الصورة والصوت بدل الكلمة، وأن الثقافة خرجت من «أيدي الصفوة في مجتمعات الوفرة التي تنعم بالحرية والديمقراطية» بسبب ثورة الاتصالات، وأدى ذلك إلى تدني الفكر والقيم والسلوكيات… إننا أمام ثقافة الليبرالية المتوحشة.

فالليبرالية التي فرضت نفسها بصفتها عقيدة الحرية الفردية، والتسامح والحق في الملكية ومواجهة الاستبداد، والدعوة للمجتمع المدني؛ اصطدمت مع ثقافات المجتمعات وعملت على تحريرها من قيمها ونظامها الأخلاقي، وراحت تحرّض على هدمها وإزالتها.

كما أن تلك الوسائل تشكل الرأي العام وتؤثر على العقول سلباً أو إيجاباً، وتقوم بصناعة الرموز الرخيصة وتهميش دور المثقف المفكر.. وقد أدى ذلك إلى تحوّل المثقف من مواطن يفكر في الارتقاء بمجتمعه إلى مجرد مهرج ومتفرج ومستهلك.

لا تخص المسألة بطبيعة الحال مجتمعات العالم العربي صرفاً. فثورة التفاهة مستوردة شأن كل أدواتنا الناجعة (!) فقد تناولها جوست ميرلو في كتابه الأكاديمي «اغتصاب العقل: سيكولوجيا السيطرة على التفكير وإبادة العقل وغسيل الدماغ» بكثير من العمق. نبحث في تأثير الأنظمة الاستبدادية على النفس البشرية. وفصّل القول في استغلال الأنظمة القمعية للآليات النفسية والاجتماعية لتوجيه تفكير الأفراد وإخضاعهم، لطمس هوياتهم الفردية وتقويض استقلالهم الفكري. وعدّد من تقنيات السيطرة الفكرية التي تستهدف إعادة تشكيل آراء الأفراد وتوجهاتهم وتدعيم إخضاعهم. وهذا ما يعرف بغسل الدماغ الذي يستهدف ديمومة بقاء الحاكم في السلطة.

يبسط ميرلو في التأريخ لظاهرة غسل الأدمغة وفي ضبط تقنيات إخضاع الفرد المتنوعة، وذلك لتبرير أعمالهم الشريرة، عبر التأثير على العقول وترويضها وتحطيم أصحابها إلى مرتبة الهوان. فكان الضحايا يصلون إلى حالة من التنويم المغناطيسي قابلين لأن يتم التلاعب بعقولهم نتيجة لتحطيم إرادتهم تدريجياً تحت تأثير الخوف، وفي هذا يؤكد الشاعر والكاتب الفرنسي جي ديبور في كتابيه «مجتمع الاستعراض ومجتمع الفرجة» أن عالمنا المحسوس تحول إلى «مجتمع صورة وفضائيات ووسائط إعلامية ووسائل تواصل اجتماعي». بمعنى أن الفرد في مجتمع الفرجة يعيش بحسب صورته لدى الآخرين لا وفق ما يكون عليه فعلياً، وأن هناك من يصنع تلك الصورة المصدرة عنه.

نشرت في الميادين نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *