هجرة الأدمغة والشباب كيف نحافظ على أدمغة الوطن وشبابه؟ ـ الحلقة الثالثة

 ان المعطيات المتقدمة (راجع الحلقة السابقة) وهي البحث في بعض أسباب هجرة الأدمغة وحجمها، تضعنا أمام سؤال آخر وهو كيف نحافظ على كفاءاتنا؟

 شدّدت ندوة هجرة العقول العربية إلى خارج العالم العربي، المنعقدة في القاهرة في 20/11/1996 (والحالة حتى اليوم هي هي) على العمل على المحافظة على الكفاءات العالية واستبقائها في داخل دولها وحمايتها ورعايتها، من خلال:

ـ دعم أنشطة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي سعيا إلى اقامة قواعد علمية وتكنولوجية عربية قوية عبر مشروعات وطنية وقومية وجبهوية كبرى، تشكل قوة جاذبة للكفاءات داخل موطنها.

ـ توفير المقومات اللازمة لتشجيع الكفاءات لبذل جهودها داخل موطنها، من خلال توفير العوائد والدخل المربح وظروف العمل الملائمة، اقامة التجهيزات المناسبة للبحوث العلمية.

ـ دعم المناخ الفكري والثقافي والسياسي المشجع للعطاء والابداع للكفاءات.

ـ تشجيع حرية تنقل الكفاءات بين الأقطار العربية، وتوفير سبل اطلاعها على أحدث مستجدات المعرفة العلمية والتكنولوجية.

 هذا، على صعيد ندوة القاهرة للكفاءات العربية، وفي بيروت عقدت «مصلحة المغتربين والهجرة» في وزارة المغتربين، في الجامعة الأميركية – قاعة عصام فارس ـ  بتاريخ 13 ـ 11 ـ 1996 ندوة بعنوان:« هجرة الكفاءات اللبنانية المهاجرة» شارك فيها عدد من الاخصائيين في هذا الموضوع، وقد جمعت بصفتي رئيس هذه المصلحة أعمالها في كتاب خاص، تضمّن مجموعة من التوصيات، التي صدرت عن هذه الندوة، تحت العناوين الثلاثة الاتية:

 1 ـ عودة الكفاءات في ضوء سياسة الدولة في الانماء والاعمار

• مسح الطاقات العلمية والفنية والثقافية للمغتربين، واصدار دليل سنوي يعرف بهم.

• تأمين المؤسسات التي تستوعب طاقات الكفاءات العائدة، وتأمين كافة التسهيلات لاسترجاع المهاجرين من أصحاب المهارات وتقديم مختلف أشكال الدعم لهم ولأسرتهم.

• تأمين حقوق المغتربين والمتحدرين من أصل لبناني كالجنسية وحق المشاركة في الحياة الوطنية العامة. «حقوق وواجبات».

• تفعيل الكفاءات الوطنية في مجالات العمل الداخلية، واعطاءها الأولوية على غيرها من الكفاءات الأجنبية.

2 تأمين فرص العمل لعودة الكفاءات

• ترسيخ اتجاهات النمو الاقتصادي في المدى المتوسط والبعيد، وتعزيز مناخ العمل والاستثمار والابداع.

• إعادة هيكلية بنيات الاقتصاد الوطني,وتطوير تقسيم العمل داخله، على نحو يعزز الأنشطة الانتاجية والمهنية الطليعية ذات المحتوى التكنولوجي.

• إدراج موضوع تطوير الموارد البشرية كهدف استراتيجي لتأمين فرص العمل بهدف استرجاع الكفاءات المهاجرة، واستيعاب أصحاب الاختصاصات والأيدي العاملة الماهرة في مشاريع داخلية منتجة.

• الإسراع في عملية تفعيل النظام التعليمي والتربوي من أجل توفير فرص أفضل للتحصيل العلمي لأولاد الكفاءات العائدة.

• فتح رأس مال الشركات تمهيدا لتعزيز الاستثمار فيها، وتطويرها بما يوفر فرص عمل أو استثمار للكفاءات.

ـ الإصلاح الإداري وعودة الكفاءات

• إصلاح المؤسسات القائمة لتفعيلها وتطويرها، وانشاء مؤسسات جديدة، قادرة على استيعاب الكفاءات العائدة، واستثمار طاقاتها الابداعية، في مشروعات وطنية تلائم تخصصها.

• تطبيق قانون الموظفين في ما يتعلق بالثواب والعقاب، وتحسين ظروف العمل الادارية والتنظيمية، وعصرنة المرافق والتجهيزات، في مجال البحث والتطوير.

• إنصاف القطاع العام في سلسلة رتب ورواتب تليق بوضع الموظف الاقتصادي والاجتماعي.

• تفعيل أجهزة الرقابة، وترشيد الانفاق، وتسهيل المعاملات الرسمية.

• تسهيل حصول الكفاءات المهاجرة على كافة الخدمات المطلوبة من بلدهم, لتمتين عملية التواصل، فالعودة.

• تكريم العلماء والباحثين والأدباء والشعراء المتميزين والمبدعين من أصحاب الكفاءات وانشاء جناح في وزارة المغتربين لجمع التراث الفكري الاغرابي.

• التحضير لمؤتمر عام لعودة الكفايات، بقى حبرا على الورق .

ونشير، أيضاً، في هذا السياق، إلى ورشة العمل التي نظمتها المديرية العامة للمغتربين، في قصر الاونيسكو، بتاريخ 10 ـ  12  ـ 2007 تحت عنوان : «الهجرة كعائق للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهجرة الأدمغة»، ولم يصدر عنها اية توصيات (راجع مجلة «المغترب اللبناني»، العدد 10، كانون الأول 2007، ص 21  ـ 18 ) .

 لقد وصلت كارثة نزيف الأدمغة في لبنان إلى حد الخطر، الذي ينذر بتحول هذا البلد إلى مجتمع هرم، وتشير الدلائل الإحصائية، إلى أن نسبة الخسارة في الفئة العمرية الشابة بين عامي(1991 ـ 2001)، قد وصلت إلى 82.2% من أصل 38.7% من العنصر الشاب في لبنان، الذي فقد في سبع سنوات(1997 ـ 2004) بين 42 و 60 ألف شاب من الفئات المنتجة، التي توزعت عمريا، بين عامي(1995 ـ 2001)، وفق النسب الآتية، بما مجموعه 63.7% موزعة 41.7 من الذكور 22.1 من الاناث، وذلك بين الفئة العمرية 25 و 44 سنة، ويفصل الجدول الاتي هذه الحالة، التي من دلالتها ارتفاع نسبة العذوبية، وتدني الزيجات، وتراجع عدد الولادات، وفي ذلك إشارة واضحة إلى هرم المجتمع المبكر.

الفئة العمريةنسبة الاناثنسبة الذكورالمجموع
25 ـ 29 سنة5.1%7.7%12.8%
30 ـ 34 سنة6.3%11.4%17.7%
35 ـ 39 سنة6.1%12.6%18.7%
40 ـ 44 سنة4.6%9.9%14.5%
المجموع22.1%41.7%63.7%

جريدة «السفير» 18 ـ 12 ـ 2007, ص9

ويقابل عوامل الدفع أو الضغط على الأدمغة والشباب من أجل الهجرة عوامل أخرى لا تقل عنها أهمية، بل هي مكملة لها، وقد اصطلح على تسميتها بعوامل الجذب أو الاستقطاب أو الاستقبال، ويمكن إيجازها بعنوان أساسي كبير: إن الأدمغة والشباب تنجذب تلقائيا نحو الدول التكنولوجية التي تشكل مراكز للتقدم المعرفي والعلمي والحضاري حيث يسود الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي، وتتوفر فرص العمل العادلة والمرافقة للبحث العلمي والعمل المنتج، والاجور المرتفعة والحوافز، ووجود الضمانات الاجتماعية والتربوية والصحية التي تحقق ارتياح الذات الانسانية وتؤمن الاستقرار النفسي للأفراد وعائلاتهم ومستقبلهم. كما تلعب التشريعات العصرية والقوانين المشجعة للهجرة دورا بارزا في جذب الكفاءات في ظل «فن جديد» أطلق عليه اسم «فن تهجير الأدمغة» واستقطابها، عبر مؤسسات خاصة أنشئت في الولايات المتحدة الأميركية مثل مكاتب «خدمات العمل الدولية» التي تتولى رصد الأدمغة في الجامعات ومراسلتها واغرائها بفرص العمل الملائمة لتخصصها، وقد ورد في احدى الرسائل: يسر مؤسسستنا ويعنيها أن تعلم من يهمهم الأمر أنها مستعدة لأن تساعد حملة شهادات الهندسة والعلوم والتجارة والفنون والتمريض.. على ايجاد عمل في الولايات المتحدة . وستدفع المؤسسة نفقات السفر أو تؤديها مقدما للذين يقع عليهم الاختيار” وتطلب الرسالة، في ختامها، من مستلمها ان يمرر نسخة عنها إلى حملة الشهادات في لبنان الذين يبحثون عن عمل. وهكذا تبدأ رحلة هجرة الأدمغة والشباب التي لا تكون مضمونة في معظم الأحيان.

إن هجرة الكفاءات الوطنية، نوعا وكما عبر عاملي الدفع والجذب خسارة كبيرة، وكارثة اجتماعية حقيقية في حياة الشعوب، اذ تشل حيوية المجتمعات الأم، وتعرقل عملية نهوضها، وتؤخر مسيرة ارتقائها، وتعطل دورها الحضاري الرائد.

كما ترتبط مشكلة «هجرة الأدمغة» المتفاقمة بالمشكلة التحررية، بمعنى أن تفريغ دولنا من شبابنا المثقف الفتي المنتج يضعنا تحت استعمار جديد نكون فيه سوقا تابعة مستهلكة للدول الصناعية التي تحتكر أدمغتنا. وهذا ما يضعنا أمام أسئلة معقدة، لعل أبرزها هل نمنع كفاياتنا من الهجرة، أم هل ندعوها إلى العودة للمساهمة في إنماء بلداننا ونهضتها، خصوصا أننا في مواجهة تاريخية مصيرية مع عدو إسرائيلي يطمع ويطمح إلى زيادة تخلفنا تخلفا، حتى يصادر دورنا الحضاري؟

ان وضع المعضلة الانمائية الانسانية التي يعاني منها العالم العربي، في اطار البحث العلمي، هو الاطار الصالح لوضع الحلول المناسبة لها والعمل على استعادتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *