ربما وجب علينا التفريق لغةً (على الأقل)، بين نوعين من العلاقات التي يمارسها الناس ضمن اجتماعهم البشري، والتي تحتاج بالضرورة إلى التسالم حتى تحقق غايتها، وهذا أمر ليس اختيارياً، إذا أراد هؤلاء الناس العيش كجماعة بشرية ذات مصالح في البقاء والاستمرار.
النوع الأول : هو التعاطف والتآزر الاختياري بين السكان، وهذا يتبع سلسلة من التقاليد والأعراف التي تنميها تلك الجماعات، في محاولة لاستمرار التسالم خدمة للمصالح البشرية، الدنيوية بالضرورة لأنها تتطلب مشاركة الأشخاص الأحياء الموجودون على سطح الأرض، كمد يد العون، والأفراح، والأتراح إلخ، وهذه المشاركات لا يحكمها عقد أو تشريع قانوني طالما هي تخدش مصلحة البقاء و الاستمرار.
النوع الثاني : هي العلاقات المجتمعية ( في حال وجود مجتمع)، التي تدلل على وجود مجتمع في زمان ومكان واضحين، فبالإضافة إلى هذه الدلالة، تقدم هذه العلاقات سيرورة اجتماعية علنية وقابلة للنقد، وذلك بإضافة المساواة إلى التسالم، من أجل الوصول إلى نسيج حقوقي، ينظم أمور هذا «المجتمع» في الدنيا، وهو ما يسمى تعاقد، الأساس المؤسس للعيش المشترك، المبني على المصالح، وهي الإطار الوحيد الذي يتفق عليه البشر، وكلما كانت المصالح واضحة وملموسة ومعلنة، كان هذا العقد دافعاً للتقدم في البقاء والاستمرار، أو ما يمكن تسميته الهروب من أي شكل من أشكال العقم المجتمعي، يعبر عنه بتضاؤل وانقطاع الإنتاج، وفي هذا مفترق الطريق، فإما أن يتم هذا التعاقد بين الناس أو السكان، أو أعضاء الجماعة البشرية، أو لن يكون هناك مجتمعاً بالمعنى النافع لهذه الكلمة.
هكذا تجري أمور الدنيا من أصغرها إلى أكبرها، بالتعاقد، فإشارة المرور على سبيل المثال، هي تعاقد إرادي بين أعضاء الجماعة البشرية، بقصد حماية الحياة البشرية على الأرض، وعدم إخلاص أي من الطرفين لهذا العقد يعني بالضرورة استهتار بالحياة البشرية، وإهدار لحق الحياة المنصوص عليه في قوانين البشرية، ونقص الفهم أو التفهم أو التفهيم، لضرورة إشارة المرور حقوقياً، يعبر تماماً عن درجة التخلف في العلاقات المجتمعية، التي عليها التدليل على وجود مجتمع معاصر لإشارة المرور، وبالتالي عليه السعي لتحقيق مصالحه بالضرورة، والتعاقد هي الوسيلة الأمثل في هذا الزمان لأنه يدلل على اشتراك الناس بالمصالح لدرجة أنها تحتاج إلى مجتمع تنتظم فيه الواجبات والحقوق بالتساوي بين الجميع، وأي خروج عن هذه المساواة، يعتبر جهلاً باستحقاقات الحياة التي تنظمها العقود بين متساوين.
والجهل هو نفسه الكارثة، ففي مثالنا التبسيطي السابق حول إشارة المرور، لا يمكن لجاهل تقدير مصلحته بها، وبالتالي لا يعي مستوى الذي قد يسببه عدم وجودها، وكذلك مخالفتها وعدم الإذعان لها، سوف يؤدي إلى كارثة اجتماعية تسلسلية، لا تنتهي بفقدان شخص ما، بل بفقدان أهلية العيش في مجتمع ذي مصالح، من يدري ربما هذا الشخص مسؤول عن أسرة كبيرة قد تتشرد، أوقد تكلف المجتمع أثمان كان يمكن توظيفها في مكان آخر منتج، وعليه يمكننا القول أن العلاقات المجتمعية وليدة المعرفة، وتأخر وصول المعرفة أو تأخيرها، يقرب هذه الجماعات البشرية من أنواع كثيرة من الفناء، لذلك تنحو البشرية نحو التعاقد لأنه يحرر الإرادة بواسطة المعرفة بينما الجهل يقيدها إلى معلف، يعبر ويعلن عن مصالحها، لذلك أيضاً على هذه الجماعات الانقياد إلى المعرفة وتجريبها، وعدم الخوف منها، وأي خيار بالمعرفة وممارستها، هو أفضل بالضرورة من اختيار الجهل/ المعلف للتعبير عن إرادة الإنسان في عصره.
وعلى هذا سيكون استحقاق التعاقد ضرورياً وبدئياً لممارسة الحياة المجتمعية والاجتماعية، على أن يكون علنياً ومفهوماً، ويمكن التفاهم معه، بمعنى استمرار العيش والحياة، والإنتاج والتنافس، وعند نقطة التنافس هذه، يظهر معدن الاجتماعية البشرية، فترجمة التنافس على أنه خصومة وعداء، هو ممارسة للجهل نفسه، خصوصاً في مسائل الدولة والسلطة والحكم، حيث هناك رؤية واحدة تضبط هذه المسائل وممارساتها، وغيرها مجهولٌ به وعدو يجب إبادته على الأقل، ( هذه التجربة واقعية وحصلت في جميع البلاد العربية)، في تجاهل واضح لحل التعاقد المتصالح عليه، وعدم استخدامه إلا عبر تفسيرات استثنائية أو قسرية، تنفي حق التنافس، وتشهر ممارسات العداوة، وهي حالة اجتماعية شديدة الهمجية، قياساً إلى المعايير الحقوقية لهذه الأيام، ( إعلان شرعة حقوق الإنسان مثالاً)، طبعاً قد يعتبر الكثيرون أن هذا الكلام رومنسي، أو مثالي زيادة عن اللزوم، ولكن تجارب الأمم الموجودة على سطح الأرض حالياً يثبت العكس، عندها يلجأ هؤلاء الكثيرون، إلى إتهام الناس بالجهل، وأنهم لا يمكن «قيادهم» (وليس إدارتهم) إلا بأدوات العداوة، دون أية إشارة إلى التجهيل، أو ما يمكن تسميته، من حرية المعرفة وإعلانها، وهذا نفسه هو عبارة عن إخفاء للعقد والتعاقد، ما يعني إخفاء للإرادة الفردية وحتى المجتمعية، في كواليس إدارة الشأن المجتمعي العام. بلا عقد علني، لا يمكن لأية علاقات مجتمعية أن تحدث، علاقات منطقية إنتاجية تسعى لمصلحة الجميع، تضبطها الحقوق والواجبات المتساوية، المضبوطة سلفاً في العقد العلني، الذي تمارسه أغلب الأمم والدول بنجاح، ودون خوف أو خشية من أي نوع من أنواع الفناء المتدرج أو المفاجئ، ودون هذا التعاقد الإرادي العلني الذي يجعل من المسؤول مسؤولاً فعلاً، لن تصل بلداننا العربية إلى أي مكان يجعلهم متساوون مع الآخرين، فالمساواة المتعاقد عليها، تبدأ من داخل الاجتماع البشري.
نجيب نصير