من المؤكد أن رفع العقوبات عن سورية «كما فرضها»، هو طريقة حداثية في ممارسة الضغوط الدولية، وهي كبديل للحرب، ربما يكون مؤقتا، تسعى إلى الوصول إلى أهداف الحرب نفسها، مع فارق أنها (أي الدولة صاحبة الضغوط) لا تتكبد خسائر بشرية، أو لربما «الدول» المضغوطة لا تستحق حرباً، فالمصالح ليست متساوية في حرب بين حداثي وماضوي، وهنا بالضبط يكمن فارق القوة، فالدول الحداثية، قادرة عن الاستغناء والمقاومة بإنتاجها، على عكس «الدول» الماضوية التي لا حول لها ولا طول، فتلجأ إلى التخلف في الحاجات والإنتاجات، وهذا ما هو مطلوب بدقة، أي الإبقاء على الضعف بواسطة التخلف، فالكهرباء هي الشكل الحديث والحداثي لموقد الحطب، إلا أن موقد الحطب لا يشغل كومبيوتراً أو تلفزيوناً أو غسالة، وعلى كل أحد الاستعانة بوسائل تحويل الطاقة إلى كهرباء، وهذا ليس خياراً أو سؤالاً، أنه تنازل حقيقي عن موقد الحطب، له أسبابه ومبرراته ونتائجه، وهو في نفس الوقت عقلية كاملة، تصنع ذاتها بالمعرفة وتعممها على السلوك الجمعي، كثقافة تكمن وراءه وتحركه. وعلى نتائج السلوك الاجتماعي ذو العقلية الحداثية، يظهر الخطأ والصواب، والتقبيح والتحسين.
في ميزان الأمم ليس أحسن من التخلف لتحقيق غايات الأمم المنتجة، وشراء منتجات هذه الأمم هو بمثابة الممارسة الحياتية للتفكير الحداثوي ( وهو بصفة عامة تفكير أنواري)، وهو لا يحقق أية غاية إذا كان على رتل أو أرتال حداثوية، تقرر ما يناسبها بضواغط أيديولوجية شتى وتأخذ به (تشتريه)، وتقرر ما لا يناسبها بنفس الضواغط وترفضه ولا تأخذ به، وكأن لها الحرية أن تنتقي ما تشتريه، ولديها خزان من الشعارات تبرر عدم الشراء، لأنها غير قادرة على بناء نسق أو أنساق حداثوية، تترابط الرؤى والممارسات فيما بينها، لمواجهة أنساق أخرى، تسعى للتنافس أو المقايضة، وهي على قدر موازي (وليس مساوي بالضرورة) من الرشد يجعلها قادرة على الفهم والتفاهم، بينما يقع الرتل الحداثوي في حصار من أربع جبهات أهمها التخلف الذي يغازل الفناء والانقراض كلما سنحت له الظروف بفعل شيءٍ ما.
الحاجة إلى الحرية، ليست ترفاً ثقافياً، ولا هي من مفسدات البهجة، بل هي من مقومات الإنتاج الحداثي، فدون حرية لا يوجد إنتاج بالمعنى الفعال للكلمة، فلا أحد يمنح الحرية كإكرامية، بل تمنحها الذات الاجتماعية لنفسها كضرورة إنتاج، مثل إنتاج الانتظام والتقيد بالمصالح والمثل العليا المعاصرة، فالحرية هي بنت الحداثة وأم الإنتاج الأصلي الإبداعي، الذي يحفظ المكانة بين الأمم، والحرية الحداثية هي حرية مقوننة، ولا يمكن وصفها بالحرية المطلقة أو المقيدة، فوظيفتها تهيئة فرص السعادة، وتقليل فرص المعاناة، وهنا يكمن الفارق بين ضوابط الحرية، وقوانين تنظيمها. ومن هنا يبدأ التفكير في إبعاد الفناء عن أفق الجماعة البشرية المتساكنة، تبتغي مجتمعاً مستمراً، إذاً لا بد أن يكون حداثياً، وإلا لا فرصة له بولادة حقيقية.
والحداثة، ليست باهظة الثمن، إلا إذا أنكرنا ضرورتها أو أجلنا ممارستها، أو لم نوفر المواد الأولية لتفعيلها، فتصبح شديدة الغلاء ولا تستطيع الجماعة البشرية المتساكنة، دفع ثمنها من تخلفها المتزايد، بحيث يتم تجريف إمكاناتها بالفساد أو النهب أو «بالاستعمار» وكذلك بالاستبداد، لتقع في حضن الفناء.
والاستبداد هو جنون القوة، غير المدعم بوعي الحداثة، فهو في أسسه غير حداثي، وليس لديه الأهلية لجر شعبه إلى مناطق آمنة أو باهرة، لأن تحقيق ذلك لا يمكن أن يتم بقوة المتخلف حضارياً، ولا تكفي التكنولوجيات لتعويض الثغرة الحاصلة بين التحضر والاستبداد، فالاستبداد ماضوي بطبائعه، لا يمكنه استيعاب الحداثة ومقتضياتها، أي أنه عكس الحداثة التي بواسطتها يمكن فهم ما حدث من عقوبات ورفعها وحروب وإيقافها، كفرصة للتحضر، أما البقاء في الماضوية، التي حاضنة الاستبداد، الحاضن للتخلف، فهذا ليس قدراً، بل هو سوء نية محصن بقلة العلم والمعرفة.
الحداثة ليست خياراً، ليس لأن العالم الحديث والحداثي تركنا نتخبط في مشاكلنا المضحكة ونزيد من تعقيدها يوما بعد يوم، طالما نستخدم تلك المعايير الماضوية، والقصة ليست أحسن أو أسوأ، بل هي مطلب عالمي ملح كي تستطيع الشعوب التفاهم مع بعضها، فالشعب المضطرب بالعصبيات الماضوية، لا يستطيع فهم الآخرين فضلاً عن فهم نفسه وتحديداً مصالحه، بحيث تسود الفوضى كمتوالية حسابية لا يمكن الخروج منها، حتى تصبح الجماعة البشرية غير قادرة على الشراء وليس لديها شيء مفهوم تبيعه أو تقايض عليه، فالإنتاج عملية حداثية يجب الخضوع لمكوناتها حتى لو تعاكست مع ما نملكه من معرفة شحيحة تجاوزها العالم.
إن تحريك الثوابت الإيديولوجية، يعتبر هدم لها، ولكن الحركة والتحريك ضروريان لبقائها، وفارق الحركة والثبات هو الفارق بين الموات والإحياء، فماذا نفعل بثوابت يراها الكثيرون في طور الموات؟ وفي المقياس العملي ليست مفيدة في أي إنتاج الذي تتوقف علية حياة أي تجمع بشري متساكن على الأقل، فكيف إذا كان الطلب هو الانتقال إلى مجتمع معاصر، مأخوذ على محمل الجد والاحترام من كافة القوى المتوفرة.
لكي تُرى عليك أن تكون موجود، وإذا كنت موجوداً عليك أن تتحرك ليراك الآخرون، وإذا رأوك يجب أن يفهموا بأن غير ضار بهم، لذا عليك أن تكون مفهوماً ويمكن التفاهم معك، أما عن الكيف، فقد سبقوك في إعلان النماذج السيئة والجيدة، القابلة للحياة، والقابلة للهلاك فاختر، فأنت في الحياة حيث الإعلان المديد عن الظلم والاضطهاد والتظلم والشكوى لا يجديان، فإذا أردت الحياة عليك أن تنتج ثمنها، بعملة واضحة وصريحة ومحددةٌ قيمتها، وغير ذلك أنت خارج الحلبة وغير مرئي.
الحياة حداثة بالضرورة، لا بد من ممارستها، فخارج العالم الحديث هناك غابات التهمج والتخلف وبئس المصير، والأمثلة واضحة لكل لبيب.
نجيب نصير