أسّس السوريون مدينة قرطاجة / قرت حدشت (القرية الحديثة)، حيث تذكر الأسطورة أنّ الأميرة إليسّا Elissa ابنة موتو Mutto ملك صور، هي من قامت بتأسيس المدينة حيث يوردها المؤرخ تيمايوس Timaios والذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.
والأسطورة باختصار شديدٍ تتحدث عن بجماليون Pygmalionوأخته إليسّا، وهما أبنا ملك مدينة صور، وقد عينهما ليكونا وريثين له على العرش ولكنّ الشعب أبى إلا إن يُحكم من الحاكم الشاب فقط دون أخته، فتزوجت إليسّا من عمّها أكيرباس Acerbas الذي تبوأ منزلةَ الكاهن للإله ملقارت، فقام بجماليون بقتل عمّه زوج إليسّا وبعد تلك الحادثة هربت إليسا عبر البحر إلى قبرص، ومن ثمّ وصلتْ إلى إفريقيا وسُمِح لها بشراء أراضٍ بقدر ما تستطيع تغطيته بجلد ثور، وبحيلةٍ منها قصّت الجلدَ إلى شرائطَ دقيقةٍ وحدّدت بها قطعة الأرض التي أرادت أن تمتلكها، وهي مساحة مدينة صغيرة أكثر من معسكر بسيطٍ للذين كانوا برفقتها، ودعي ذلك المكان ببرصة Byrsa وهي ما تعني في الإغريقية جلد الثور.
نقل الفينيقيون عباداتهم معهم إلى قرطاجة وعلى رأس تلك العبادات عبادة الإله بعل حمّون أيْ؛ السيد الأول وتتحدث العديد من الكتابات عنه، وبينها اثنتان هما الأقدم من القرن السادس قبل الميلاد، وهي تكرر اسم الإله الذي قدمت له الأضحية، واسم الواهب، وغالبا اسم أبيه، حيث ذكر ذلك على شاهدة نذرية، تلك التي أعطاها ماجون Magon بن حنّو Hanno لبعل حمّون. إنّ بعل حمّون في قرطاجة ربّما يعني؛ سيد مذابح البخور أو ربّما ارتبط اللقب ب الجذر اللغوي لكلمة (ح م ن) وهو ما يعني الحرق والتوهج، عندئذ يمكن أن يكون الاسم إشارة إلى الشمس، كما عبد بعل حمّون كإله للطقس والخصب والثمار، وهو السيد الحامي للمدينة ويشبه ملقارت بعل صور، وهو ما يذكر بمركز بعل في أوغاريت خلال الألف الثاني قبل الميلاد حيث هو ابن الإله “دجن” وكان على صراع مع الإله إيل سيد المجمع الإلهي الأوغاريتي ومع زوجته عشيرة، وقد كان من صفاته بأنّه العلي والمسيطر وراكب الغيوم وسيد الأمطار وسيد العواصف والصواعق والرياح.
لقد اقترن الإله بعل بالإلهة الفينيقية تانيت Tinnit حيث وقفت إلى جانبه في قرطاجة، ومن ثمّ تقدّمت عليه، تانيت والتي من المحتمل أنها مستمدة كاسم وكصفات من الإلهة عشتارات، وهي المتطابقة أيضاً مع الإلهة هيرا الإغريقية في أنموذجها والذي كان سائداً في جنوبي إيطاليا كإلهة للخصب وحامية للوالدات، ومن رموزها الرمانة والنخلة والسمكة والحمامة وكذلك الهلال وهو ما يدل على ارتباطها بالإلهة السورية عشتار، والتي كان لها نفس الرمز والذي يحمل معنى الإلهة القمرية وملكة للسماء.
هذا وما يزال اسم بعل يردد حتى يومنا في كثيرٍ من الأرياف السورية، كدليلٍ على السقاية أو الرّي بماء المطر، وخاصةّ في المناطق التي لا يمكن استخدام الزراعة المروية فيها، فالتين البعل والعنب البعل والكثير من الخضروات والفواكه التي تنمو بعلاً أيْ؛ بالاعتماد على المطر فقط، يعطي لتلك المزروعات نكهة خاصة في مذاقها تذكرنا بذلك الإله الذي عُبدَ على مدى قرونٍ عديدة في سوريا، ذلك الإله الذي ما يزال اسمه متناقلاً عبر التاريخ والأجيال راسخاً في الأذهان وعلى الألسن، ذلك الإله الذي نقله السوريون إلى قرطاجة فعبدوه هناك وعبده غيرهم من الشعوب الأخرى.
د. عبد الوهاب أبو صالح