لمحة عامة
المذهب العلوي هو مذهب إسلامي ذو فكر صوفي عميق، هو رؤية روحية تدعو إلى فهم الدين من خلال معانيه العميقة وليس ظاهره فقط، ويُعتبر ذلك جوهر التصوف والتي تهدف إلى المعرفة الإلهية والاتحاد معها بالاعتماد على التأويل الباطني للنصوص الدينية، والتي تستند إلى تأويل عميق للقرآن، وهو يولي أهمية بالغة للجانب الروحي والمعنوي في العبادة، وبحسب المذهب العلوي فالدين لا يقتصر على الظواهر الشعائرية، فيغلب عليها الجانب الرمزي والتأويلي وصولا إلى روح هذه الشعائر، عبر التأمل والصفاء والانفصال عن الماديات وصولا إلى الجوهر وهو الله، هذا الأسلوب في التدين جعلهم عرضة للاتهام بالزندقة أو الكفر في العديد من المراحل التاريخية، ما أدى إلى تعرّضهم لموجات متكررة من القمع والاضطهاد .
ـ المجازر والانتهاكات التاريخية بحق العلويين..
منذ نشأتهم، واجه العلويون موجات من العنف الطائفي، لا سيما من بعض الحكام الذين رأوا فيهم تهديدا لوجودهم وفكرهم الديني.
وإنّ معاناة العلويين ليست حكرًا على فئة واحدة، بل هي جزء من معاناة الشعوب التي تعيش في مجتمعات منقسمة ومتوترة. ومع ذلك، فإن ما واجهوه من مجازر واضطهادات يدعو إلى قراءة التاريخ بعدالة، ويحث على بناء مستقبل تكون فيه مكونات المجتمع متساوية في الحقوق والواجبات والمواطنة، دون خوف من الإبادة أو التهميش.
حين نتحدث عن الطائفية السياسية في التاريخ الإسلامي، لا يمكننا في البداية تجاهل ما واجهه العلويون خلال العصر العباسي، من قمع واضطهاد طال أعمدة وجودهم المذهبي والإنساني، فقد ارتكبت الدولة العباسية مجازر مروعة بحق الطائفة العلوية في بداية تشكلها طوال قرون . هذه السياسات لم تكن مجرد خلافات مذهبية فقط، بل كانت أدوات سلطة استُخدمت لإسكات صوت المعارضة المذهبية والسياسية معا”، بالإضافة إلى فتاوي بعض المذاهب الإسلامية لهم واتهامهم بالزندقة والخروج على الإسلام.
وما لا يُقال في كتب التاريخ، هو أن الاضطهاد زرع في الوعي العلوي خوفاً وجودياً دائماً، وشكّل ردة فعل دفعتهم إلى الانغلاق والتقوقع، فمن يُلاحق بسبب فكره، لا يملك ترف الجهر به.
وأمام هذا القمع الممنهج وعبر عقود طويلة، اضطر العلويون إلى الهجرة والهرب نحو أماكن بعيدة فقطنوا الجبال والهضاب المرتفعة طلباً للأمان وهرباً من الإبادة.
ـ المجازر العثمانية ضد العلويين في الأناضول وحلب والساحل.
في خضم التاريخ العثماني الطويل، غالباً ما تُعرض الدولة العثمانية بصفتها رمزا للوحدة الإسلامية والتسامح الديني، لكن نظرة أقرب تكشف عن فصول مظلمة من الطغيان والاضطهاد، خاصة بحق الطوائف التي لم تنضو تحت المذهب السني الحنفي الرسمي للدولة، من بين هؤلاء، كان العلويون المتميزون بمذهبهم الصوفي المختلف، أو كما عُرفوا في الأناضول بـ«القزلباش» اللذين اعتبروا خطراً دينياً وسياسياً كانوا على أثره ضحية لحملات قمع دموية تعرضوا خلالها عبر قرون لموجات متكررة من الاضطهاد، وصلت إلى حد الإبادة في بعض المناطق، ولا سيما في الأناضول وشمال سوريا (حلب وريفها وما حولها) والساحل السوري لاسيما في القرن الخامس والسادس عشر وما تلاه .
فمنذ اللحظة الأولى لصعود السلطنة كقوة كبرى في الشرق، وخصوصاً في عهد السلطان سليم الأول، بدأت حملات منظمة تستهدف العلويين بذريعة ولائهم للصفويين أو انحرافهم عن الدين القويم.
ـ مجازر القرن الخامس والسادس عشر.
بدأت عام 1514، مجازر سيواس وتوقات وأماسيا (1514 – 1515)، تم اعتقال آلاف العلويين من ولايات سيواس وتوقات وتم نفي الكثير منهم أو إجبارهم على التوبة، فبعد معركة جالديران ضد الدولة الصفوية أصدر سليم الأول أمرا بقتل كل من ينتسب إلى طائفة القزلباش، تشير الوثائق العثمانية القديمة مثل ما ورد في كتابات المؤرخ العثماني «إبراهيم بيجوي»، إلى أن نحو 40,000 علوي في مناطق مرعش وسيواس و توقات وأماسيا تم ذبحهم خلال هذه الحملة، في واحدة من أبشع المجازر الطائفية في تاريخ الأناضول .
وبين عامي (1515 – 1517) تواصلت عمليات القتل والسحل والحرق في قرى وسط الأناضول، تحت ذريعة تطهير البلاد من الزنادقة. هذه الحملات لم تفرّق بين رجل وامرأة، بين شيخ وطفل، ولم يُقدّم أحد إلى المحاكمة.
وفي العام 1516 في زمن السلطان سليم الأول وحسب المصادر الشعبية وليست بالمصادر التاريخية الموثقة، حصلت مجزرة التل و هي واحدة من الجرائم التي جرت في فترة الحكم العثماني في مدينة حلب، لا توجد أرقام دقيقة متفق عليها حول عدد الضحايا في هذه المجزرة، لكن الروايات تشير إلى أن عدد القتلى قد يصل إلى الآلاف وفي بعض الروايات الشعبية تذكر أن العدد وصل إلى 9000 في حين أن بعض الروايات تشير إلى أن العدد أقل بكثير، مما أضطر العلويين إلى النزوح باتجاه جبال الساحل هربا من القتل.
وفي العام 1520 حصلت مجازر مرعش وقيصري وسيواس وسط الأناضول، وذلك أيضا في بداية حكم السلطان سليم الأول حيث أصدر أمراً بقتل كل من يعتنق العقيدة العلوية بوحشية شديدة.
ـ مجازر القرن الثامن والتاسع عشر.
مجازر عام 1811 في جبال اللاذقية. في عهد السلطان محمود الثاني، قام العثمانيون بشن حملات عسكرية لإخضاع مناطق جبلية يقطنها العلويون خاصة جبال الساحل السوري، هذه الحملة جاءت بذريعة امتناع السكان عن دفع الضرائب ورفضهم التجنيد القسري.
فقد شن الجيش العثماني حملة على منطقة جبلة والقرى المجاورة.
أحرقوا خلالها القرى وقتلوا المئات من السكان. تم اقتياد الرجال والشباب إلى إسطنبول أو الأناضول لتجنيدهم قسراً أو سجنهم.
لا توجد أرقام دقيقة، لكن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن عدد الضحايا بلغ المئات في هذه الحملة وحدها، وحدثت حالات نزوح جماعي نحو الجبال.
في العام 1850، شنت الدولة العثمانية حملة عسكرية بالتعاون مع ميليشيات محلية بعد تمردات ضريبية نتيجة الظلم والقهر والفساد وذلك في ريف حلب، وخصوصاً في مناطق مثل جبل سمعان ونبل والزهراء وعندان، واجه العلويون اضطهاداً متكرراً من قبل السلطات العثمانية، كان ضحيتها نحو 1000 قتيل خلال أسبوع، وسوت قرى بأكملها بالأرض بعد حرقها ونهبها.
خلال حرب القرم (1853– 1856)، استغل العثمانيون حربهم مع الروس لتصفية حساباتهم مع بعض الأقليات الداخلية، وقد شملت هذه الفترة توترات طائفية حادة في سوريا. واستهداف للعلويين الذين كانوا يتهمون بالميل إلى الروس.
وقد جرت مواجهات في جبال الساحل خصوصا في مناطق بسنادا وكسب وقرى جبل الأكراد، قام الجيش العثماني بالتعاون مع ميليشيات حليفة معه بشن هجمات على القرى العلوية، قدر عدد القتلى بالمئات، كما تم أسر عدد من النساء والأطفال كسبايا.
أُجبر من تبقى من السكان على النزوح نحو الجبال المرتفعة وقد نزح البعض إلى لبنان.
«حملة عثمان باشا» عام 1860 إلى جبال الحفة ومنطقة صلنفة وبعض قرى ريف اللاذقية.
فقد توجهت قوات عثمانية بقيادة عثمان باشا،
إلى هذه القرى بحملة إبادة أدت إلى تدمير قرى بأكملها، قتل خلالها ما يزيد عن 900 شخص في العديد من القرى وتم مصادرة المواشي والممتلكات وحرق القرى ونهبها.
وفي 1877، تحت ذريعة الشك في ولائهم تم استهداف قرى جبل السماق وشمال إدلب، فدمرت وحرقت ونهبت أكثر من 20 قرية، وقتل ما لا يقل عن 1200 شخص، وسط صمت رسمي مطبق.
ومع تزايد الحضور العلوي في لواء الإسكندرون، تعاملت الدولة العثمانية معهم كخطر داخلي.
ففي العام 1890، أُجبر مئات العلويين في أنطاكية وريفها وكسب والقرى المجاورة على الالتحاق بالمدارس الدينية السنية، وتم نفي عدد كبير من رجال الدين، ومصادرة الأراضي وحرق القرى في محاولة واضحة لطمس الهوية المذهبية العلوية.
حملة 1890-1895.
مع اقتراب نهاية القرن، زادت سيطرة الدولة العثمانية على المناطق السورية، وواجه العلويون ضغوطات إضافية فقامت الدولة بفرض التجنيد الإجباري عليهم بالقوة.
ومصادرة الأراضي المملوكة لهم بحجج غير قانونية، وإجبار الأطفال على دخول المدارس العثمانية السنية بهدف “تصحيح العقيدة”.
وتم ارتكاب العديد من المذابح في قرى دريكيش وبيت ياشوط ونهر البارد.
– وأخيرا وليس آخرا، حملة الإبادة التي وقعت في الثامن من آذار 2025 واستمرت لأسبوع وذلك على أثر اتهام العلويين ومقاتلي النظام السابق بمهاجمة بعض نقاط الأمن في الساحل السوري، أعلن على أثرها النفير العام والجهاد ضد العلويين فتوجهت فرق الموت وفصائل الإرهاب مدفوعة بفتاوى ابن تيمية ومباركة من العثماني الجديد لتحصد آلاف الضحايا من المدنيين العزل من السلاح، فلم تميز بين طفل أو امرأة أو شيخ، تعرضت خلالها العديد من المدن والقرى للإبادة والنهب والحرق، مثل جبلة وريفها وبانياس وريفها وقرى اللاذقية وطرطوس وبعض مناطق حمص وقرى حماه والغاب وسجلت عمليات إبادة جماعية في هذه المدن والقرى المنكوبة وهرب الآلاف من المدنيين إلى الأحراش والمناطق المرتفعة والجبال، استمر القتل لأكثر من أسبوع مع صمت كامل لحكومة الأمر الواقع، ذهب ضحيتها وحسب إحصائيات غير رسمية أكثر من 20 ألفاً، غير المفقودين، وما زال العدد بإزدياد مع اكتشاف أعداد جديدة من الضحايا الملقاة في الأحراش والغابات .
ـ فتاوى الشيخ ابن تيمية (1263-1328) بحق العلويين.
ورد في «مجموع الفتاوى» (الجزء 35، ص161 وما بعدها).
هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية (العلويون) هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، فإنهم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض. ويضيف.
ولا تجوز مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم، بل ولا يقرون بالجزية، فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا من أهل الكتاب ولا من المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا تنكح نسائهم. ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لكونهم دعاة إلى الكفر.
ـ خاتمة.
المجازر التي ارتكبها العثمانيون وغيرهم ضد العلويين في الأناضول وحلب وادلب والساحل السوري لم تكن مجرد أحداث عرضية، بل حملت طابعا ممنهجا من الإقصاء الديني والعقائدي والاجتماعي، اتهم خلالها العلويون بالهرطقة والردة والزندقة والخيانة، وغالبا ما استخدمت هذه الذرائع لتبرير القتل الجماعي والسلب والنهب دون محاسبة، لم تكن المجازر بحق العلويين مجرد أحداث عابرة، بل جزء من سياسة ممنهجة لتفكيك الطائفة العلوية ومحاولة إبادتها وفرض الهيمنة العقائدية والسياسية عليها، آلاف العلويين قتلوا لا لذنب إلا لاختلافهم في العقيدة، في ممارستهم، وفي فهمهم للدين، لم يكونوا متمردين بطبعهم، بل سعوا مرارا للعيش بسلام ومحبة وتفاعل في ظل دولة تحفظ لهم حق الحياة والمواطنة، لكنهم جوبهوا بالقمع والذبح والإقصاء والتهميش والإذلال، قد أدت هذه المجازر تاريخيا” إلى عزلة طويلة عاشها العلويون في الجبال، مما أبعدهم عن المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع مكونات المجتمع حتى بدايات القرن العشرين .