الحب وجذوره التاريخية ـ الحلقة الثالثة والأخيرة الفصل الرابع: الحب في الثقافة العربية الإسلامية «مجنون ليلى- دي موزي»

1 – الشواهد الأثرية

تثبت الشواهد الأثرية في منطقة الفاو (جنوب غرب الرياض-السعودية) على تواصل رمزية الحب ما بين حضارات المشرق، وشبه الجزيرة العربية، وضمن دراسة أثرية نشرتها هيئة التراث السعودية سنة 2018 وجدت نقوش تعود للقرن الأول ميلادي حيث تشير إلى آلهة مرتبطة بالخصوبة والحب، ما يشير طبعاً إلى تشابه مع رمزية إنانا ودي موزي والتي تجسد الحب والجمال والتضحية[1]

ورغم قلة الشواهد على توثيق الحب في النقوش العربية القديمة، فان بعض الكتابات (السبئية، الفاو، حضرموت وسبأ، النبطية) وجد البعض منها والذي يشير إلى وجود علاقات عاطفية، حنين وفقدان، الزواج…)[2]

كما ويشير في هذا السياق المؤرخ جورج كاميرون في كتابه الآلهة والطقوس في جنوب الجزيرة العربية، أن التبادل الثقافي بين حضارات اليمن القديمة وبلاد المشرق أدى إلى انتقال رموز الحب والخصوبة كإنانا، عبر طرق التجارة[3]. كما يربط الباحث عبد الرحمن الأنصاري بين نقش «الهاء» (رمز الأنثى في الجزيرة) وتماثيل إنانا السومرية، مشيراً إلى وحدة الرمزية المشرقية.[4]

والجدير ذكره أن الشعر ما قبل الإسلام والذي يعرف (بالجاهلية) طبعا أنا لا أوافق على هذه التسمية، كان من أهم المصادر التي توثق حالة الحب حيث نجد قصائد شعرية تصور العشق، مثل قصائد عنترة بن شداد وقيس بن الملوح. علماً أن الحب في الأدب قبل الإسلام لم يكن مجرد شعور فردي، بل كان يخضع لقواعد القبيلة والتقاليد الاجتماعية تماماً كما كانت العلاقات العاطفية في المجتمعات المشرقية تتبع القواعد الدينية.[5]

2 – مجنون ليلى ودي موزي

رغم أن قصة قيس بن الملوح مجنون ليلى تُروى في العهد الأموي، ألا أن جانب من مؤرخي العصر التاريخي الوسيط ألأصفهاني (897-967) نموذج يربطونها بتراث الحب العذري والذي يعكس قيماً مشرقية قديمة العهد. ويشير الأصفهاني أيضاً في هذا السياق أن الحب العذري ليس بدعاً من العرب، بل هو صدى لحكايات الأسلاف[6]

لا بد أن نشير هنا أن تضحية المجنون يمكن مقارنتها بتضحية دي موزي، حيث يموت العاشق لفداء معشوقته، ويقول المفكر محمد أركون في كتابه الفكر الإسلامي «أن الحب العذري الإسلامي استوعب الموروث الأسطوري المشرقي، لكن حوله إلى نموذج أخلاقي متصوف مع الحفاظ على جوهر التضحية»[7]

إضافة إلى مسألة بغاية الأهمية، هي أن الإسلام لم ينفِ مفهوم الحب، بل نظمه في إطار عملية الزواج الشرعي، مثل قوله تعالى: «وجعل بينكم مودة ورحمة» (الروم:21) وهذا يدل على أن الحب كان يُنظر إليه كجزء من البناء الاجتماعي.

3 – مقاربات بين إنانا والمجنون

يعتبر الباحث الدكتور خزعل الماجدي من أوائل من قارب موضوع ليلى والمجنون بالأسطورة السومرية «ليليث» أو زوجة الرجل الأول «آدم» في أعماله المسرحية ج 2 ص« 441-444 سنة 2005، وقد عرضت في الأردن، ضمن مهرجان الأردن المسرحي سنة 2015 ، وكانت من إخراج الدكتور فراس الريموني

يحسم المفكر أركون في تحليله للأنثروبولوجيا الدينة ص: 220 على أن الأساطير السومرية شكلت نواة سردية انتقلت عبر الأديان والثقافات نحو العالم بما فيها طبعاً العربية. كما ويؤكد عالم اُلآثار علي إبراهيم غبان ايضاً أن النقوش التي تم العثور عليها في منطقة الفاو على أنها تدعم بما لا يقبل الشك فرضية التواصل الرمزي بين بلاد ما بين النهرين وجنوب شبه الجزيرة العربية[8].

من زاوية أخرى، يعتبر المفكر طه عبد الرحمن أن الحب في التراث الإسلامي مجنون ليلى نموذج، لم يكن انفصالاً عن الماضي القديم، بل تجلياً جديداً لروح التضحية المشرقية.[9]

وفي هذا السياق أيضاً يعتبر الدكتور مروان أبي فاضل في دراسته البحثية تحت عنوان «اليم والأدونيات» في نصوص المصادر العربية بين التاريخ القديم وعالم اليوم، كيف أن هذه العادات ارتبط بها الإنسان منذ القدم، ويؤكد أبي فاضل من خلال دراسته هذه كيف أن مضمون هذه الروايات لم يتغير كثيراً وما كان فكراً دينياً ادخل في صلب عادات وتقاليد استمرت طيلة حقبتي التاريخ القديم والوسيط، حتى أن بعضها ما زال حياً في الثقافات الشعبية المعاصرة.[10]

في نهاية هذه الدراسة، يمكن القول، أنه وبناء على المصادر التاريخية والشواهد الأثرية أن جذور عيد الحب ليست وليدة العصر الحديث، ولا هي حتى مستوردة من الحضارات الغربية كما يظن البعض، انما لها امتدادها العميق في سومر، وبابل، وآشور، وبلاد كنعان. بحيث كان الحب وطقوسه جزءًا من النسيج الروحي والاجتماعي لتلك الحقبة التاريخية القديمة.

من هنا، فإن إعادة الاعتبار لهذا الإرث الثقافي ليست مجرد مسألة أكاديمية، بل هي خطوة أخلاقية ضرورية لاستعادة الهوية التاريخية لهذا العيد. لذا على الأوساط الثقافية إضافة إلى المؤسسات الدولية في مقدمتهم اليونسكو، إعادة النظر في التسمية فهو ليس ال (الفالنتين)، قطعاً على أن يكون الاسم مستوحى من التراث المشرقي، تكريماً للحضارات الجبارة التي أرست مفاهيم العشق والجمال قبل آلاف السنين.

هذه الدعوة هي لربط الحاضر بالماضي، وإعادة الاعتبار لثقافات أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية، وكما أن للأرض ذاكرة لا تنسى، للحب أيضاً تاريخ يجب ألا يطمس.

إن الاعتقاد السائد اليوم، بأن عيد الحب مستمد من قصة القديس الشهيد فالنتاين هو في الحقيقة سردية البست عصرنا الحاضر التي جاءت الينا منذ العصر التاريخي الوسيط، علماً أن فكرة الاحتفال بالحب ظهرت قبل فالنتاين بقرون طويلة جداً.

تجدر الإشارة بأن المشرقيون احتفلوا بعيد الحب في طقوس مقدسة تجمع بين البعدين الروحي والعاطفي، بالمقابل لم يعرف عن الحضارة الغربية خاصة بالعصور التاريخية الوسطى أي تقاليد مشابهة ألا في نهاية تلك العصور. انطلاقا من هنا أن نسبة عيد الحب إلى القديس فالنتاين، هو بالتأكيد إسقاط تاريخي غير دقيق، يخفي من خلاله جذورًا حضارية أعمق.

أننا إذ نؤكد أن الاحتفال بعيد الحب كظاهرة ثقافية واجتماعية ليس من اختراع الغرب، بل هو امتداد طبيعي عند حضارات أقدم، في قلب المشرق، ومن هنا فإن إعادة تسميته وربطه بأصوله التاريخية الحقيقية هو استحقاق ثقافي وتاريخي يجب أن تتبناه أولاً دول المشرق، ثانياً المؤسسات الفكرية والثقافية على المستوى العالمي.


[1] تقرير التنقيبات الأثرية في الفاو – الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني – 2018 – ص:34

[2] علي، جواد – المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام – ج 4 – ص: 345-350

[3] كاميرون، جورج – الآلهة والطقوس في جنوب الجزيرة العربية – ص: 112

[4] الأنصاري، عبد الرحمن ـ الحضارات القديمة في شبه الجزيرة العربية – 2005 – ص:89

[5] الآسد، ناصر الدين – مصادر الشعر الجاهلي وقيمها التاريخية – ص: 210-220

[6] الأصفهاني، أبو الفرج – شاعر ومؤرخ وأديب وموسيقي أشهر مؤلفاته كتاب الأغاني- ج 2- ص: 203

[7] أركون، محمد – الفكر الإسلامي – نقد واجتهاد – مركز الأنماء القومي – 1990 – ص: 145

«[8] غبان، علي إبراهيم – الآلهة والعبادات في شبه الجزيرة العربية – 2013 – ص: 133

[9] عبد الرحمن، طه – روح الحداثة – ص: 89

[10]أبي فاصل، مروان – أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية له العديد من الكتابات والمقالات والأبحاث التاريخية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *