ما يعرقل دور «المجتمع المدني»؟
يتبين لنا، مما تقدم، (راجع الحلقات السابقة) ان مؤسسات المجتمع المدني التي تشترك فيها فئات المجتمع على اختلافها تؤسس لوحدة اجتماعية تامة تتوثق فيها الروابط الحقيقية بين أبناء المجتمع وينتج عنها العدل الحقوقي والعدل الاقتصادي، وتسودها الحرية المسؤولة، وتتوحد فيها النظرة الى قضايا الحياة الكبرى، وتتعيّن الأهداف، ويترسخ المجهود العام باتجاه المصلحة العامة، التي تنعكس خيرا وسعادة على جميع أبناء المجتمع، فتتقدم ثقافته وتتطور حضارته، في اتجاه التفاعل والتكامل الحضاري بين المجتمعات الانسانية جمعاء. الا أن هذه القاعدة التي ترتكز عليها حياة المجتمع وحريته وسيادته واستقلاله وعلاقاته الخارجية ( في التفاعل والتكامل الانسانيين)، تصطدم بعراقيل شتى، سنحاول الاضاءة على أهمها، وخصوصا تلك التي لها علاقة بدراستنا: ومنها: الهويات وارتهان مؤسسة المجتمع المدني، العنصرية وخرق سيادة الدولة.
أ-الهويات القاتلة:
ان أولى العوائق التي تقف في وجه الجهد الذي تبذله مؤسسات المجتمع المدني من أجل وحدة المجتمع وحقوق ابنائه وحرياتهم هي وجود المؤسسات الأهلية (المدنية) القائمة على التناقضات الاجتماعية في طابعها الفئوي من عائلي، عشائري ، قبلي، طبقي، ديني، طائفي، مذهبي، عنصري وفردي.. حيث تتحدد فيها علاقات الفرد بالآخرين على هذه الأسس الفئوية، وعلى الاساس المتقدم يتمحور انتماء الفرد الى مجتمعه، فهو انتماء فئوي، لا وطني، تحدده المصلحة الفئوية، لا القومية، ويعين شكله الولاء الفئوي لا الاجتماعي، وفي اطار الانتماء والولاء الفئويين تمسخ صورة المجتمع الفسيفسائي التي تتقارب أحجاره الا انها لا تتفاعل ولا تتحد، فهي ضعيفة البنيان، تنهار وتتفتت عند أول صدمة.
وبتعدد الانتماءات والولاءات وتقاربها في المجتعات «المتعددة الثقافات والحضارات» وتضاربها في مصالحها، تحدث الصدامات وأعمال العنف والاقتتال الداخلي الدموي، وهذا ما عبر عنه الكاتب أمين معلوف في كتابه « الهويات القاتلة» بقوله:
«ان الناس يتناحرون أكثر عندما يكونون قريبين من بعضهم البعض»! فكيف اذا كانوا على «عقائد» و «قيم» فئوية متناقضة؟
ب ـ ارتهان مؤسسات المجتمع المدني؟
مما تقدم، يتضح لنا بكل جلاء دور مؤسسات المجتمع المدني وأهميتها في توثيق الروابط والحقوق والحرية في المجتمع من جهة، والتي لا تقل عنها أهمية المحافظة على استقلالية وتمويل عمل هذه المؤسسات الأهلية من جهة أخرى، وهذه القضية الأخيرة، هامة بلا شك، « لانها تنعكس على فاعلية هذه المنظمات. فهناك عامل هام يحدد الى حد بعيد هذه الاستقلالية وهو التمويل ومصادره. فالواقع أن صاحب هذا التمويل هو صاحب القرار..» (1) ، والسؤال ما هي مصادر التمويل لمنظماتنا الأهلية؟ على هذا السؤال تجيب الاستاذة الجمعية نجلاء بشور ( مديرة مؤسسة تالة-بيروت)، بما يأتي:
ان غالبية مصادر التمويل الساحقة لمؤسساتنا الأهلية ( في لبنان)، تأتي من قوى السلطة الراهنة، من مؤسسات وشخصيات، اما داخلية او خارجية واما من المؤسسات الدولية ومن أبرزها الأمم المتحدة، أي ايضا من مجموعة الأنظمة والحكومات. بل وترضخ لسياسة الدول الكبرى التي تدعم المنظمات الأهلية من خلال حكوماتها. وتغيب المصادر غير الحكومية عن دعم هذه المؤسسات، مما يجعلها أسيرة مصادر تمويلها، ساعية الى استرضائها بل الى اعترافها بها، متنافسة متناحرة لنيلها، وهادفة الى احتكار التمويل في هذا المجال الأصلي أو ذاك(2)
وتقدم الباحثة المذكورة مثالا عن سلبية عدم استقلالية عمل المؤسسات المدنية في « التجربة اللبنانية» ، فتقول:
«وأود هنا ان أذكر مثالا من التجربة اللبنانية، وهي أنه بعد سنوات الحرب الأهلية التي قادتها المليشيات الطائفية، تأتي بعض منظمات الأمم المتحدة لدعم توجه المجتمع الأهلي نحو الطائفية ايضا. اذ هي تحصر دعمها من خلال المراجع الطائفية للمؤسسات الاجتماعية والثقافية المختلفة. وقد سعت مؤخرا المليشيات الطائفية نفسها الى تأسيس منظماتها الاجتماعية والثقافية والاعلامية والسياسية، وبدل أن تدعم المنظمات الأهلية ذات الطابع الوطني العام من حيث تركيبها وأهدافها والفئات التي تستفيد من خدماتها، فهي تدعم المنظمات الطائفية الطابع، في كل المناطق وهي ذات طبيعة واحدة» (1)، وقد تحولت الى مؤسسات تنموية مرتهنة، بعد ان كانت تتخذ طابعا خيريا اجتماعيا مستقلا.
ويبقى الحل في انقاذ مؤسسات المجتمع المدني من الارتهان المالي، هو في ابتكار وسائل جديدة، والبحث عن مصادر غير حكومية لدعم هذه المؤسسات وكوادرها المتخصصة في ميدان العمل الأهلي المستقل، وفق المقترحات الآتية:
ـ دفع الطبقات والأفراد الأغنياء الى المساهمة في دعم هذه المؤسسات، وتوعيتهم بأن مصالحهم مرتبطة بقوة المجتمع المدني وبقوة الديمقراطية فيه.
ـ تشجيع هذه المؤسسات على اتباع أسلوب التمويل الذاتي بواسطة مشاريع انتاجية دائمة تؤمن دخلا وتحقق بالتالي استقلالا ماديا عن الدولة يساعد بدوره على تأمين الاستقرار والاستمرار.
ـ تصعيد النضال من أجل الحفاظ على المؤسسات القومية الموجودة وتطويرها وتعميق الروابط بينها وبين مؤسسات المجتمع المدني.
ـ انشاء مصرف قومي لتمويل مؤسسات العمل الأهلي(2).
يتبع : العنصرية
(1) – نجلاء بشور: ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 674-675
(2) – نجلاء بشور: المرجع السابق نفسه، ص 674
(1) – نجلاء بشور: المرجع السابق نفسه، ص 674-673