الماء ورمزيته التاريخية في سوريا

اهتدى السوريون للتعامل مع عنصر الماء بطريقة حضارية، منذ حوالي عشرة آلاف عام قبل الميلاد تقريباً، وترافق ذلك مع اكتشافهم للزراعة، وكذلك بعد أن ابتكروا الفخار، فكان أحد العوامل الرئيسة في نتاجهم وحياتهم بعد الإستقرار، فلم يعد الإنسان السوري – في تلك المرحلة- يخاف الماء كما كان في السابق، بل استطاع أن يطوّعه لخدمته كما طوّع الحجر قبله، وبالمقابل فقد وعى السوريون قيمة الماء وجعلوا له رمزيةً خاصةً، فالينابيع كانت موضوعاً مقدساً ومستخدماً في العديد من الطقوس منذ أزمنة موغلة في القدم، وكان الماء  أو الينبوع موضوع آلوهة مولّدة للحياة والخصب، وكذلك فقد كان الماء رمزاً للحياة في كل المعتقدات والأساطير والأديان، وكذلك كان له مكانة هامةً وأسطوريةً عند الصيادين منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، فقد وجدوا فيه المكان الذي يحفظ قطعاً من لحوم الحيوانات التي كانوا يصطادونها معتقدين أنّ هذا الطقس له تأثير سحري ورمزي وسيمكنهم ذلك من صيد طرائد أخرى في المرات المقبلة، وذلك باعتقاد ميثولوجي لم يستطع الإنسان في تلك المرحلة أن يعبّر عنه بأبلغ من تلك الطريقة.لقد كان الماء رمزاً للقداسة والطهارة وسرّاً من أسرار الشفاء والديمومة والإستمرارية، وبالنسبة للبابليين فقد عبدوا ثالوثاً إلاهياً هو: آنو وإنليل وإيا وكان إيا يسمى بالسومرية إنكي وهو يهيمن على أمواه المحيط البدئي وله ابنتان نينا ربة المياه ورمز فكرتها سمكة في حوض، ونيسابا التي تمسك إناءً فائضاً رمز الرخاء الذي كانت تهبه للكائنات وقد مُثلت تلك الألوهات للمياه الفائضة من خلال التماثيل الصغيرة وعلى الأختام الأسطوانية. كما أن صورة الإله آنكي -إله الأرض والسماء- منبع النهرين دجلة والفرات الخارجين من كتفيه والذي يمنح الخصوبة والحكمة لتموز وعشتار تبرز من خلال العديد من التماثيل والأختام الاسطوانية، كذلك كان الماء في

بلاد الرافدين أصل الكون فالإناء الذي عثر عليه في مدينة أوروك، والذي استخدم لتخزين العنبر،  والعائد إلى عصر “جمدة نصّر” يحمل خطّاً مزدوجاً متموجاً يمثل قناةً أو نهراً يخصّب النباتات المائلة على الإناء، وفيما بعد فرض الكهنة الاغتسال بالماء حتى يتخلص المذنب من أخطائه، وقد أصبحت المناسبات مألوفة طالما أنّ الأمراض كانت تعتبر كنتائج للذنوب.A close-up of a stone carving

AI-generated content may be incorrect.

 أعطى السومريون والبابليون رمزية خاصة للماء، أمّا الفينيقيون، فقد مارسوا شعائر الحمّام المقدس لتماثيل الألوهيات النسائية الفينيقية والكريتية، وحتى الرّبات الإغريقية مثال حمام أفروديت في باخوس، والمعروف من خلال الأوديسا لـ الشاعر الإغريقي هوميروس. أما الماء في المسيحية فهو يطهر المذنبين عند تعميدهم، وفي سفر الرؤيا يسمع يوحنا الكلمات الآتية (من عطش سوف أعطيه من نبع الحياة بدون مقابل)، وكذلك فإنّ نهر الحياة ينبع من عرش الربّ، وكانت الآيل التي تصوّر على الفسيفساء رمز الماء الحيّ، ولذلك احتوت أماكن التعميد في الكنائس تزيينات لها، وكذلك فقد رمز الماء إلى الأناجيل، فالأناجيل هي البشارة وهي الماء الحيّ الذي يحيا به الإنسان، والسيد المسيح نفسه هو نوح في مواضع كثيرة نوح الذي خرج ظافراً من الأمواه، وكما أنّ الماء يأخذ بصفة عامة صفة للحياة، فهو كذلك كان تاريخياً إحدى أدوات العقاب الرباني الذي ينزل بمن يخالفون الإله فكما حمل الماء نوحاً لينقذه، فقد كان الماء ذاته من أغرق أولئك الذين اعتدوا عليه وكذبوه. وفي الإسلام المحمدي جُعل الماء رمزاً للطهارة، فعلى المؤمنين القيام بالغسولات الشعائرية قبل كلّ صلاة أيْ؛ خمس مرات في اليوم وقد ذكر الماء ضمن آيات عديدة من آيات القرآن الكريم مُظهِراً بذلك أهمية الماء وقدسيته.

الماءُ أساسُ تكوّن الحياة، وسوريانا تملك وامتلكت هذه الثروة الهامة عبر العصور، من بحر وأنهار وينابيع، فكان الماء بمصادره المتعددة، صابغاً لشخصية الإنسان السوري بصبغة لطيفة عبّرت عن رقيه بالتعامل تاريخياً مع مكّون مهمٍّ من مكونات الحياة الأربعة؛ الماء، والهواء والنار والتراب.

الدكتور عبد الوهاب أبو صالح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *