الإبادة الأرمنية في ذكراها الـــ 110

ملكون ملكون – السويد

كل عام، يحيي الأرمن ذكرى الإبادة التي تعرّض لها أجدادهم. ففي 24 نيسان 1915 أُعدِم عدد من رجال النخبة الأرمنية في الأستانة، وكان هذا بداية لعملية إبادة كبيرة، أدت إلى إجلاء الأرمن عن أرض الأناضول. وبعد ان كان يعيش على أراضي الإمبراطورية العثمانية حوالي مليوني أرمني. يمكننا حالياً أن نقول بشكل تقريبي إنه لا يوجد أرمنٌ في الداخل الأناضولي.  

ولمقاربة ما حدث قبل 110 سنوات نقرأ في الأبعاد الأربعة للإبادة:

تغييّب النخبة الأرمنية

البداية كانت بتقويض اساسات المجتمع الأرمني من خلال إعدامات جماعية للنخبة الاقتصادية، والدينية، والسياسية، والفكرية. والمجزرة التي وقعت يوم 24 نيسان 1915 أثناء لقاء لمّ شمل النخبة الأرمنية في الأستانة، صارت مع الوقت بوصلة لعمليات اعتقال النخبة الأرمنية في كل أرجاء الدولة. وكان كافة المعتقلين تقريباً رجالاً في منتصف العمر، أو شخصيات بارزة في عمر متقدم. وبعد اعتقالهم، وغالباً تعذيبهم، جرت في النهاية تصفيتهم. وفي مثال موثّق عن ذلك مجزرة وقعت في مدينة ديار بكر.  يوم الأحد 30 أيار1915 ساقت المليشيات 636 رجلاً مكبلاً من أعيان الأرمن، إلى نهر دجلة. وعند الوصول إلى الضفة نقلوهم إلى عوّامات ضخمة بحجة ترحيلهم إلى الجنوب، وأوصلت المليشيات العوّامات إلى ممر ضيق بين الجبال وأرستها هناك. قُسِّم الأرمن بعد ذلك على مجموعات، كلّ واحدة من ستة رجال. ومن ثم سُلبت أموالهم وأُجبروا على نزع ملابسهم وتسليم أشيائهم الثمينة، تمهيداً لذبحهم من قبل رجال جَنَّدَهم حاكم الإقليم. استخدم الفاعلون الفؤوس والخناجر والبنادق، وتخلصوا من الجثث بإلقائها في النهر. جَرَت إبادة النخبة الأرمنية بسرعة مذهلة، إذ تمّ القضاء على مجمل الطبقة العليا خلال بضعة أسابيع فقط.

مصادرة الأملاك

الخطوة الثانية تمثلت بالتجريد من الملكية. إذ تعتبر الإبادة الأرمنية إحدى أكبر عمليات نقل رأس المال في العصر الحديثة، ولتنفيذ ذلك أصدرت «تركيا الفتاة» عدة قرارات بخصوص ممتلكات الأرمن اشترطت فيها تجريدهم من تجارتهم ومهنهم. وفي 10 حزيران 1915 شكلت الحكومة «لجنة الممتلكات المتروكة»، وكلَّفَتها بتنفيذ أوامر التجريد. فيما يمثل هجوماً كاسحاً على الاقتصاد الأرمني، الذي تمّت مصادرته رسمياً من قبل الدولة.

واستكمالاً لذلك أصدر النظام العثماني في 26 أيلول 1915 قراراً إضافياً أسند فيه مهمة تنفيذ المصادرات وتسجيلها إلى كل من وزارة الداخلية والعدل والمالية. وبذلك تمكنت “تركيا الفتاة” عبر هذه القرارات، من نهب اقتصاد ضخم يضمّ المنازل والمزارع والمتاجر والمصانع والورشات والاستديوهات… إلخ.

 ومن خلال دراسة أوراق طلعت باشا الخاصة تبين بأن عدد المباني المصادرة وصل إلى 41117 مبنى. حيث قامت «لجنة الممتلكات المتروكة» بتصفية كل ممتلكات الأرمن وبيعها للأتراك بأقل من سعر السوق. وقد نجم عن ذلك إفقار جماعي للضحايا الأرمن. وماعدا النتائج الموضوعية للحرمان المادي، كان حجم الخسارة الذاتية غير مسبوق. الحِرَفيون الذين تعلموا من أجدادهم حِرَفَ الصياغة، أو النجارة، أو الخياطة، أو الحدادة، لم يفقدوا أسباب عيشهم فحسب وإنما هويتهم المهنيّة أيضاً.  

الترحيل

البعد الثالث للمخطط الشرير كان التهجير الشامل للسكان الأرمن المدنيين. وفعلياً أخذ هذا الأمر شكله النهائي في 23 أيار 1915 عندما أصدرَ طلعت باشا قراراً بتهجير شامل لجميع السكان الأرمن، وكان قراره الخطوة الأولى على طريق تهجير الأرمن إلى البادية السورية، وقد حاول طلعت باشا التمويه على التهجير كإجراء رسمي، فصاغ «قانون الترحيل المؤقت». ومع أن أعمال التهجير كانت قد بدأت، إلا أن القانون تمّ تصديقه في 29 أيار. وقد مُنِح الجيش صلاحيات كبيرة لتنظيم التهجير، بيد أن الإدارة اليومية كانت بيد «مديرية إسكان العشائر والمهجّرين». أما طلعت باشا، فكان يشرف على العملية عبر مراسلات التلغراف ومساعدة الموظفين المحليين

وشمل التهجير كامل الجغرافيا العثمانية، أي منطقة تعادل بحجمها حالياً تركيا وسورية، ولبنان وفلسطين والعراق. وقد وقعت أشدُّ الأحداث ضراوة في ثماني ولايات شرقية، حيث يقطن عددٌ لا بأس به من الأرمن وهي: أرزروم، وان، طرابزون، سيواس، معمورة العزيز، أضنة، ديار بكر وحلب. وتفاوتت كثافة الترحيل ما بين ولاية وأخرى فقد حاول بعض الولاة عرقلة العملية أمثال ” جلال بيك في قونيا وحسن مظهر بيك في أنقرة ورحمي بيك في أزمير”. بينما كَثَّف بعضهم وتيرة الإبادة، من بينهم “مصطفى عبد الحق رندا في بدليس وجمال عزمي بيك في طرابزون ومحمد رشيد في ديار بكر”. في الولايات الأولى عومل الأرمن بطريقة أقلّ وحشية، فتمكنوا من الهروب أكثر من غيرهم. في الولايات الأخيرة كان القانون هو الفناء الشامل.

محو الهوية

البعد الرابع هو إجبار الأرمن على التنازل عن هويتهم القومية، إذ أُجْبِر النساء والأطفال على التخلي عن المسيحية واللغة الأرمنية واعتناق الإسلام والتكلم بالتركية. كان هذا جزءاً من هجوم أكبر على الثقافة الأرمنية. وبالرغم من أن طلعت باشا رَحَّل الأرمن الذين تحولوا إلى الإسلام بعد فترة، إلا أن عدداً كبيراً من النساء والأطفال تم خطفهم وإجبارهم على تغيير دينهم. وقد جرى توزيع بعض الأطفال على دور الأيتام في بعض المدن، مثل قونيا وبيروت، حيث تلقوا تعليماً تركياً وإسلامياً بغرض تحويلهم إلى أتراك. كثيرون هم الذين نسوا عائلتهم وهويتهم الأرمنية فعلاً. ردود فعل الأرمن على سياسة التطبيع كانت متناقضة، وتتراوح بين إذعان خائف ومعارضة لا تتزعزع. واستهدف هذا الإجراء تحجيم عدد السكان الأرمن وطمس ثقافتهم وهويتهم الجمعية. وبالتالي يتوجب اعتبار ذلك مزيجاً خطيراً من الاختفاء القسري والإبادة الثقافية. وبالتالي عمل المجرمون على محوَ الآثار الثقافية للوجود الأرمني على الأرض، عبر تدمير الكنائس والمباني ونقوشها الأرمنية. وتحطيم أديرة أرمنية ترجع إلى القرون الوسطى، مثل: ناركافانك، فاراكافانك، أركيلوتس فانك، سورب غربيت وسورب خاش. ولم يتبق اليوم سوى آثار قليلة لمراكز حياة الأرمن الثقافية والدينية، في حين كان هناك 2600 كنيسة و450 دير و200 مدرسة في عام 1914، هذه البربرية تجاه التراث الثقافي الأرمني عَمِلَ على تحقيق هدفين: لتأكيد سردية أن الضحايا لم يكونوا موجودين أصلاً، وكذلك قطع الطريق على الناجين من العودة لأماكن لم تعد تحوي شيئاً من تراث وتاريخ هذا الشعب العظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *