إن إخفاق أية بلاد في التحول إلى وطن، يرتبط تماماً ودائماً، بإحتكار العنف، والعنف بالأصل جريمة بغض النظر عن أسبابه ومرجعياته، لذلك ارتأى المجتمع «الحديث» تحويل البلدان إلى أوطان، والرعايا إلى مواطنين، يستمدان مشروعيتهما من بعضهما، في إقرار العنف وشروط ممارسته العلانية، ضمن مصلحة الوطن والمواطن معاً، وهنا يشار إلى «الدولة» كصاحبة الحق الأوحد في ممارسة العنف ضمن الشرط السامح لوجودها هي نفسها، أي الدستور.
يبدو ما سبق قديماً ومكرراً، بل ومخجلاً أيضاً بسبب هذا التقادم في ترداده، فمن الذي لا يعرف معنى الدولة المعياري في هذا الزمن؟ ومن لم يعرف منجزات الدولة في أنحاء العالم؟، والأهم من لا يعرف ثمن (ومن سيدفعه) عدم وجود «دولة» أو دولة موهومة أو مزيفة أو شبّه لها؟، وكذلك وفي نفس الترتيب نسأل عمن لا يعرف الدستور؟، أو عمن يريد إعادة إختراعه كمعجزة تتجاوز دساتير العالم؟ على الرغم من أنه أصبح من ضرورات الحياة اليومية، وهناك الكثير من الدساتير الناجزة التي حققت فروقات هائلة في نوعية العيش الجماعي على أرض مشتركة، الذي يعني تقنين العنف، وعلانية أسبابه، وظروفه، ومباشرته.
اليوم تروم سوريا إلى الوجود كوطن يؤهلها للبقاء والتنافس على صلاحية الوجود، فهل هي بحاجة إلى ما يشبه الثورة الفرنسية التي دامت بتضحياتها الدموية حوالي المئة عام؟، أم أن الحل هو في المتناول تماماً مثل الذي يختار اليوم السفر بعربات الخيل ويترك الطائرة؟، فهل نحن بعيدون فعلاً كل هذه المسافة عن تقنين العنف في اجتماعنا البشري؟
تتفارق «الدولة االعادية» عن « الدولة الموهومة»، باحترام الأولى للدستور من حيث تقنين العنف، بحيث تنشىء مؤسسات للشرطة و الجيش بملابس مميزة، معلنة في هويتها الشخصية وإختصاصها بقمع الخروج عن القانون، أو الدفاع عن أرض الوطن، وهنا تقع المفارقة مع «الدولة الموهومة» التي تجعل هذه المؤسسات في خدمة قراءتها الخاصة للدستور، الذي يمكن أن يكون مشوهاً أيضاً بسبب فرضه على الجمهور بإستعراض قدراتها العنفية، وهنا تتحول المؤسسات إلى ميليشيا في خدمة السلطة، وفي هذا كسر شديد الخطورة على الإجتماع البشري المعاصر الذي يعرف معنى الدولة، ويغيّب معرفته بها للنجاة من العنف، عند هذه النقطة يبدأ المجتمع بالفشل، متمظهراً بالضعف الناتج عن التخلف المعرفي بأمور إدارة البلاد اللمنوي تحويلها إلى وطن، أو الإبقاء عليها إذا كانت وطن، إذ تفشل «الدولة الموهومة» بالإنتقال من الفوضى إلى الإنتظام، بسبب فشل قدرتها على تقنين العنف داخل إجتماعها البشري، الذي يفترض أن يتحول إلى مجتمع راسخ في صيانة مصالحه، وتتحول الجيوش النظامية، ومؤسسات الشرطة، إلى قطعان بشرية، تقايض داخلياً العنف بالخنوع والتذلل، الذي يتحول بسهولة إلى فساد عظيم، يُخضع كل مقدرات البلاد للبيع والشراء، وقد مارس السوريون هذه التجربة وتكشفت فضائح مهينة كبرى للشعب نفسه الذي سكت على مواربات الدستور والقوانين المفصلة فقط لـ «الدولة الوهمية»، منذ بداية تفعيل طروحات غير معرفية حول الدولة، وإنتهاء بالكوارث التي حلت بالإجتماع البشري وسبل عيشه، هذا السكوت المديد والممدد من جديد، سوف يفضي إلى عدم مشاركة المعارف والخبرات، وكأن الدولة خلطة سرية يحق لحاملها أن يوظف العنف في سبيل تطبيقها، وفي هذا إبعاد للمسؤولية عن المسؤول، لتصبح المسألة هنا تجاربية خالصة، فلا مسؤولية تقع على عاتق المجربين، ليدور الزمن ونستيقظ على كارثة بقيت تفعل بالمجتمع الأفاعيل، بسبب تحكيم العنف الميليشاوي في المعارف المؤسسة للدولة العادية لينتج دولة الميليشيا التي سوف تتحول إلى مليشيا الدولة.
لقد جربت سوريا وغير بلد عربي، هذه الخلطة السرية المفجعة، ففي حين قامت الدولة الحديثة بتحويل الميليشيات إلى مؤسسات مجتمعية، حدث العكس لدينا فمنذ الوحدة السورية/ المصرية، وظهرت مادة التربية العسكرية «الفتوة» في المدارس، وإنتشار ما يسمى «الحرس القومي» في حزب السلطة، تنامت الظاهرة الميلشاوية لتسقط الدولة العادية، وتدعم الدولة الموهومة، لتدعم سلطات حمقاء، لا تعرف من الدولة إلا الحكم والتحكم، لقد جرب عمر البشير في السودان مليشيا (التدخل السريع) ولكنه أوصل البلاد بها إلى الدمار الشامل، فإزدواجية سلطة تقنين العنف، هي وصفة كاملة للدمار، ومع هذا أستمرت العديد من الدول العربية في هذا النموذج، ووصلت إلى المذابح والإقتتال وإفناء الإنسان. وما زلنا على يبدو مستمرين في ترسيخ هذه الإزدواجية، طالما الدولة العادية لا سبيل لها بالظهور والبقاء، بسبب ميلشياوية إستخدام العنف، الذي يسهل فيه تأسيس ميلشيات متقابلة ومتقاتلة، ما كان لها أن تكون بوجود الدولة المعروفة بالعالم، كوسيلة نقل من الفوضى إلى النظام.
التفكير الميليشياوي، تفكير تبسيطي ومبسط، يقضي بإزاحة المخالف بالقتل أو التغييب، وفي هذا عبرة لكل معترض، ولكنه فكر عصي على الإنتاج والبناء، فالميليشيا في حال سيطرتها تطلب أثماناً لهذه السيطرة، ومنها الإستحواذ على الدولة، ولكنها لا تحتمل أي دولة فيها مساواة أو دستور، فتنقلب عليها فوراً، وتبدأ بتمثيل دور الدولة رمزياً، في مقاربة ذرائعية لتبرير سقطاتها القاتلة للمجتمع، دون أي اكتراث بمصيره «كدولة» للمجتمع، فيكمل العنف غير المقنن دورته اللانهائية في أشكال متعددة (السطو، الإعتداء، الفساد والرشوة، إهانة الآخر، التهريب، المخدرات إلخ إلخ) مقيمة مجتمع الجريمة المبرر وجوده بردات الفعل التي تمثل الأخلاق الإجتماعية في دولة الميليشيا، وبهذا يقع الفصام في شخصية الدولة علاوة عن موهوميتها، ليصحو الإنسان على خرابه وفجائعه.
لا يمكن لسوريا أو أي بلد عربي آخر أن ينجو، دون ممارسة الدولة الحديثة المجربة، دولة المساواة والديمقراطية والعدالة الصريحة والعلنية، وما إختراع العدالة الإنتقالية، إلا وجه من وجوه إرادة المجتمع للحياة والإستمرار، لقد تكلفت وتكفلت البشرية جميعها، بالوصول إلى عملية معرفية أسمها «الدولة» كي تصون مجتمعاتها (إذا كانت موجودة) من الإنهيار والفناء، ولم تعد سلطات الدولة محكومة برؤى السلطة، بل خاضعة لقوانين معرفية كونية مفهومة ومتفاهم عليها، من حيث القيم الإنسانية العليا المؤسِسة لها، وأية فهلوة خارج هذه الأسس سيدفع ثمنه المجتمع المأمول تأسيسه من مواطنين ومكان يعطيه المواطنون صفته كوطن يستحق العمل والتضحية من أجله.
نجيب نصير