الدولة والعلمنة (الحلقة الحادية عشر) ـ القسم الرابع

دور المجتمع المدني في توثيق الروابط والحرية

والحقوق، والعوائق أمام ذلك

ـ تمهيد:

 يؤكد علم الاجتماع أن الروابط الاقتصادية والاجتماعية مرت في مرحلتين، الأولى وتختص بالاجتماع الابتدائي ورابطته الاقتصادية والاجتماعية هي رابطة الدم، وفي هذا الاجتماع تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة أو بربرية، والثانية، تختص بالاجتماع الراقي، ورابطته الاقتصادية والاجتماعية مستمدة من حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم، بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة، وفي هذا الاجتماع تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة. وفي كلتا الحالتين تبقى الرابطة الاقتصادية هي أساس الرابطة الاجتماعية البشرية، فالعمل ونظامه التعاوني هما مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع، الذي لا يقوم الا على الروابط الاجتماعية المتينة، التي جوهرها وحدة الحقوق، وروحيتها الحرية المسؤولة(1)

لقد أحدثت نظرية «المجتمع المدني » ثورة في تبدل المفاهيم والقيم، خصوصا، الاجتماعية منها، وبعد أن كانت الروابط النفسيةـ الاجتماعية قبل نشؤ هذه النظرة، تقوم على نظام قديم اساسه التمايز الاجتماعي، اعتبارا للانتماء الأسري، والديني، فاذا بالتصور الايديولوجي ينقلب كلية: فعوضا عن النظرة «العمودية» حيث يكون ترتيب الناس في المجتمع، ترتيبا ماديا تراكميا، في أعلى وأدنى، تبرز النظرة «الأفقية» لأعضاء المجتمع الواحد حيث يكون المبدأ الوحيد المقبول والشعار المناسب للوجود والعمل ما هو شعار «المساواة»، الذي يؤمن لأبناء المجتمع الواحد المصالح الواحدة والحقوق الواحدة، ويشرّع أمامهم آفاق الحرية، نحو الغد الأفضل.

   فالمجتمع المدني لا يعرف المراتب الاجتماعية، ولا التدرج الاجتماعي، وتركيبه الداخلي لا يعرف السيطرة ولا التبعية، فالعلاقات داخل المجتمع المدني ليست علاقات بين قوى اجتماعية أو طبقات، ولكنها علاقات بين أفراد أحرار متساوين… ان قانون المجتمع المدني هو الحرية، تلك الحرية التي يجسدها العقد الذي يتم بين الأفراد الأحرار المتساوين(1)

ـ دور المجتمع المدني في توثيق الروابط

اذا انطلقنا من مدلول أن «الرباط النفسي ـ الاجتماعي، هو ما يدل على علاقات الأنا بالآخر، التي تتجسد تارة في روابط، أو ترابطات خطرة، بمعنى انها محرمة، محظورة، وتارة في روابط مباحة وسوية، من زاوية منظومة القيم الاجتماعية»(2) اذا انطلقنا من هذا المفهوم لتبيان دور المجتمع المدني في توثيق الروابط والحرية والحقوق والعوائق في المجتمع، فنحن أمام ثلاثة عناوين رئيسية، الأول: يتضمن معنى الرباط وهو ما يدل على علاقات الأنا بالآخر، والثاني: ينطوي على الجانب السلبي من هذه الروابط وهي الخطرة، المحرمة والمحظورة، والثالث: يشير إلى الروابط الإيجابية المباحة والمعقلنة من جهة القيم الاجتماعية.

   ان علاقات الأنا بالآخر، هي صفة اجتماعية ملازمة للانسان منذ وجوده، وفي جميع اجناسه، اذ اننا حيثما وجدنا الانسان، وفي اية درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه في حالة اجتماعية. وهكذا نرى ان المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للانسان الضروريان لحياته وارتقائه.

   وبناء عليه تكون الروابط الاجتماعية، قد نشأت مع الانسان ورافقته في مراحل انحطاطه وارتقائه، الا انها كانت سلبية حينا، وايجابية حينا آخر، وهذا ما ذهب اليه روبرت ماكيفر، عندما قال:

«ينتمي الإنسان إلى عدة فئات، والى عدة اشكال من التنظيم الاجتماعي، ويرتبط ببعضها ارتباطا وثيقا وبالبعض الآخر ارتباطا واهيا، ويتعاون مع بعضها الآخر تعاونا سطحيا..» (1)، وحاجة الأنسان الطبيعية إلى علاقته بالآخر والارتباط به والتعاون معه لسد حاجاته مباشرة أو مداورة، أدت هذه الحاجة إلى نشؤ المصالح وتعددها وتنوعها، وانتظام أبناء المجتمع المدني فيها في قصد تحقيق المصلحة العامة المشتركة، وتحقيق الخير العام للجميع. ونعود إلى ماكيفر الذي يغوص في تفاصيل نشؤ المصالح وتفاعلها وغايتها مستعملا عبارات بارزة في الدلالة على الروابط، ومنها: المشاركة والتآلف والتعاون، العمل من اجل الآخر، والعمل من أجل الجميع، زيادة الفوائد وتوزيعها، انشاء العلاقات، الأخذ والعطاء والمؤانسة والاخوانية والرحلات، ومن المفيد ان نسجل هنا، ما ذهب اليه ماكيفر في هذا الموضوع:

   «ونبدأ معالجتنا بالإشارة إلى أن الناس أنواع متعددة من المصالح بعضها عام وبعضها خاص. والمصالح العامة هي تلك المصالح الأولية التي يطلبها جميع الناس، والمصالح الخاصة هي تلك التي ينشدها بعض الناس. ويفضل الناس ان يشاركوا في منظمات تدافع عن مصالحهم، لا التنظيم يعطي الشعور بالقدرة. ولذلك يتعلمون أن يتآلفوا مع بعضهم البعض، فيعمل كل منهم في سبيل الآخر، ويعمل كل منهم في سبيل الجميع، ويكون عملهم متآلفين اشد فعالية من عملهم متفرقين. وتكون بعض المصالح توزيعية كأكثر المصالح الاقتصادية، التي يؤدي التنظيم فيها إلى زيادة فوائد كل مشارك في هذا التنظيم، والى توزيع هذه الفوائد على وجه يستمتع به كل فرد بحصته باستقلال عن الآخرين. ويكون بعضها مشتركا يستفيد منه الجميع ويظل مشاعا بينهم بدون أن يوزع على أي فرد من الأفراد باستقلال عن الآخرين. وتشمل هذه المصالح الثقافية، كتقدم المعرفة، واكتشافات الفن، والفكر، والأدب والدين وما شاكل ذلك. ولربما منح المكتشف الفرد مكافأة فردية على اكتشافه، واعطي الفنان الخلاق جوائز شخصية، وغمر بالتكريم واغدقت عليه العطايا. ولكن ما يكتشفه أو ما يخلقه يظل ملكا للجميع. فتظل ينابيع المعرفة في متناول كل من يريد ان ينهل منها. وبينما يكون منتوج صانع الأحذية للاستعمال الخاص، يكون انتاج الفنان أو الأديب مبذولا لكل من يميل اليه.

   ان المصالح الثقافية متنوعة جدا، وقائمة على جميع المستويات من أدناها إلى أعلاها. فهي تتنوع بتنوع عقول الناس، وتنوع استجاباتهم للأحوال الواحدة. والأطفال الذين يوجدون في أحوال واحدة يتصرفون فيها تصرفات مختلفة. ولكل فئة مواقف ونظرات ومواقف وآراء ومعتقدات ومسرات وطرق حياتية تختلف بها عن الفئات الأخرى. ولكل انسان غاية في حقل الثقافة تختلف عن غاية الآخر، وتراه يسعى لتحقيقها بحيوية فائقة وروح خلاقة. وسواء اكان تحقيقه لها ناجحا أم فاشلا، جميلا ام قبيحا، فانه طريق تحققه الذاتي. والروح الانسانية ترى كل شيء على الأرض أداة أو وسيلة لتحققها الذاتي.

   وتحمل هذه الحاجة إلى التحقق الذاتي الإنسان على أن ينشئ علاقات مع اخوانه البشر، وعلى ان يقيمها معهم على جميع المستويات من مستوى الأخذ والعطاء في الحب، أو الصداقة، والأحاديث والرحلات والمؤانسات مع أهل الجوار إلى مستوى الاخوانيات الدينية العالمية. ولا يمكن للدولة أن تستوعب جميع هذه العلاقات، وان تشمل جميع المنظمات التي تنبثق منها، سواء أكانت هذه الدولة كبيرة أم صغيرة، وسواء أكانت أرضها واسعة أم ضيقة.»(1)

يتبع: العراقيل التي تعرقل دور «المجتمع المدني»


(1)  ملاحظة: ابن خلدون بحث في «العصبية» ورأى فيها رابطا اجتماعيا، ورأى ان المعيار في بقاء الدولة أو زوالها هو في بقاء العصبية أو زوالها.

للمزيد من التفاصيل، راجع: مقدمة ابن خلدون: مرجع سابق ص 371-374 و 377-378

(1)  حسام عيسى: المجتمع المدني في العالم العربي، مرجع سابق ص 69.

(2)  خليل احمد خليل: معجم المصطلحات ـ النفسية الاجتماعية رباط = Binding=Liaison دار الفكر اللبناني، بيروت، طبعة اولى 1997 ص 84.

(1)  روبرت مامكيفر: تكوين الدولة، مرجع سابق ، ص ، 449

(1)  روبرت ماكيفر: تكوين الدولة، مرجع سابق، ص 500-501

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *