الخطاب المتهافت عند بشير الجميل

    ترددتُ كثيراً  قبل الكتابة عن الخطاب الذي ألقاه بشير الجميل بُعيد جلسة انتخابه، لأن طبيعة هكذا خطابات لا يُعول عليها، كونها أقرب إلى إعلان نوايا منها إلى برنامج عمل فعلي وحقيقي، عادةً وحسب التجربة في الكيان اللبناني، لا تأخذ هذه النوايا مسلكها إلى التنفيذ، بل تبقى حبراً على ورق في أدراج المكاتب، أو مرمية على الرفوف في كتب المذكرات، لكن الذي دفعني إلى تناول هذا الخطاب، هو اعتماده كمرجع عند أتباعه باعتباره المشروع المستقبلي للبنان، كما عند بعض القوى التي تستنسخ هذه التجربة البائدة، وتحاول استحضارها في الأزمة القائمة حالياً على الساحة السياسية، فهل يصلح لأن يكون كما يشتهيه البعض؟ أو هل يحمل من الأفكار التي تؤسس لتحولات إيجابية في الاتجاهات السليمة لإرساء نظام قابل لوضعه موضع التنفيذ؟

    طبعاً سنتجنب الإجابات القطعية على الأسئلة المدرجة، لكننا سنحاول تحليل الخطاب في جانبه الشكلي كما في مضمونه، استناداً إلى تاريخ وممارسة بشير الجميل ما قبله وفي الايام القليلة التي تلته.

     الخطاب من حيث الشكل يتماهى مع خطاب الحجاج بن يوسف الثقفي في أهل العراق، لما يحمله من المفردات القواطع والجوازم، وصيغ الأمر، والفوقية الطاغية، مستفيداً من دبابات العدو التي تتمركز على بُعد عشرات الأمتار من منصة القسم، فهو خطاب تعبوي تكتيكي، يحاول استقطاب الآخر بلغة القوة من جهة، ومن جهة أخرى بطرح مفاهيم للتعمية، كالحرية والديموقراطية والسلام وغيرها.

    أما من حيث المضمون، فتتكشف حقيقة المشروع بعيداً عن التجميل الكلامي الذي يغطي الأبوات بالسماوات، وبدءاً من السطر الثاني حين يقول عن القسم” أديت مضمونه طوال ثماني سنوات المقاومة، وأتلو نصه في بدء ست سنوات الحكم “،” وإن قسمي هو على روح الغائب “، ربما هنا نطق الجميل وبشكل مباشر عن صيغة الحكم في السنوات الست المقبل لبنان عليها، واستناداً لهذا القول أن السنوات الست ستستمد وحيها من  الثمانية السابقات، بل ستكون امتداداً لها، أو تكرارا لها، إن تكرار النهج يعني بكل بساطة تكرار أفعاله الموسومة،  بكل موبقات الحرب التي مارسها، إن كان في سبيل وصوله إلى السلطة عبر تصفية الحلفاء، أو من أجل ما أسماه الوحدة من خلال المجازر الذي ارتقى بعضها من جرائم حرب إلى جرائم ضد الإنسانية، وهوالنموذج الذي استقاه من العصابات الصهيونية “الهاغانا وشتيرن” ، متمثلاً بحليفه بيغن رئيس وزراء العدو، وكرئيس لواحدة من أكثر العصابات دموية في التاريخ .

    نعم كان بشير يتلو قسمه على روح الغائب، على الدولة التي زهق روحها ودستورها ومؤسساتها،  واستبدلها بمؤسسات طيعة تخدم شبقه للسلطة وفرديته وديكتاتوريته، والدوس على الديموقراطية باستلاب حرية النواب، إن بالترغيب أو بالترهيب، أو محاولات القتل لتأمين نصاب الجلسة .

    نعم تناول الخطاب مفردات الدولة والمؤسسات بمعنى النظام والأمة،  وحرّض على التحرر من”العدو”، لكن أي لبنان يريد؟ وبالطبع أي دولة؟ وأي نظام؟ وأي أمة؟ وحتى أي عدو يقصد؟ لا بل أي سلام يريد؟

    لنقل بصراحة أن هذه المفاهيم والمفردات ليس لها دلالة واضحة في خطابه، ما دامت غير معرّفة، وإذا تجاوزنا ذلك لعدم قدرة خطاب واحد على تضمين تحديدات واضحة، فهي أيضاً لا تستند إلى منظومة فكرية سابقة لافتقار بشير إلى تلك المنظومة، ولو حاول في الخطاب نفسه أو على الأقل لو حاول من كتبه له أن يظهر شيئاً من هذا القبيل، فجاءت على شكل شذرات مقتطفة من عصر التمهيد لنظام العولمة، التي توجها “فوكوياما” بنهاية التاريخ و”هنتنجتون “بصراع الحضارات، وعليه بنى قوله بالتحالف مع العالم الحر، وقوله عن ما أسماه” المجتمع اللبناني “التعددي، أو ذات التعدد الحضاري، لقد سهى عن باله أو بال من كتب أن الحضارة هي الحضارة الإنسانية، تُسمى باسم الثقافة المسيطرة، وتتغير مع فعالية هذه الثقافة سلباً أو إيجاباً، وبالتالي لا يمكن في مجتمع واحد وفي عصر واحد، أن تكون هناك أكثر من حضارة، بل من الممكن أن يكون هناك أكثر من ثقافة، بعضها يكون بقايا ثقافات سابقة متفاعلة مع الثقافة السائدة .

    إن بشير الجميل ومن خلال خطابه هذا، وفي مجمل خطاباته التعبوية السابقة واللاحقة، حاول أن يفرض وجهة نظر أحادية، تتناول الوطن والنظام، كانت ولم تزل سبباً للحرب الداخلية، بل ببساطة أن الحرب الأهلية قامت على التباين بوجهات النظر حول هوية لبنان ونظامه .

    ولا يغرننا الحديث عن السلام، فهو سلام ملتبس داخلياً وخارجياً، ففي الداخل لم يقتنع معظم اللبنانيين بوجه نظره، بل استكملوا مقاتلة مشروعه واسقطوه على قارعة 17 أيار، ولا تفوتنا ملاحظة قيام بشير بارسال قواته إلى الجبل من اجل تركيعه، كما أرسل جيشه الصغير القواتي إلى الجنوب، وتحديداً إلى المية ومية، بحيث أشّر هذان العملان إلى ملامح نواياه الحقيقية، أما السلام الخارجي فمن أين يتأتى، والعدو الأساس يتربص بلبنان دولة ومؤسسات وثروات، ويسعى فيما يسعى إليه بجعله كياناً تابعاً وملحقاً مجرداً من القوتين المادية والروحية ومعزولاً عن عمقه الطبيعي الاستراتيجي .

    وفي نقطة أخيرة يصنف البعض هذا الخطاب، بأنه صورة عن تحول صاحبه في النهج والقناعات، فالنهج قد بيّن تهافته فيما تلاه من أيام على قلتها، أما القناعات فمسألة أخرى، فنحن بالعمق والشكل لم نلحظ أية تغيرات تُذكر على هذا الصعيد، فالتحول من الكنتنة والفدرلة والتقسيم الظاهر، الذين كانوا السمة العامة لخطاباته السابقة، لم تخفِها الصياغات الرنانة الجديدة، وبقي الخطاب يتراوح بين مشروعين تكتيكيين تتبناهما الجبهة اللبنانية آنذاك، الفدرلة الظاهرة والفدرلة المقنعة .

    يبقى القول أن هذا الخطاب بقي مشبعاً بالعنصرية والشوفينية، تجاه من أسماهم الغرباء، وهي تعكس حقيقة شخصية بشير الجميل .

رئيس المؤتمر القومي العام وليد زيتوني