قراءة في ديوان “من مسافة صفر” لعلي الرفاعي[1]

قراءة في ديوان “من مسافة صفر” لعلي الرفاعي[1]


[1] الحائز على جائزة أنطون سعاده الأدبية عن فئة الديوان الشعري لعام 2022

احترت كثيراً في ما أقول في شعر علي الرفاعي، أنا الناقدة التي تقف عاجزة أمام لوحة يتسامى فيها الجمال فتغدو بعيدة المنال، لا تنصفها المنهجيات وأدوات التشريح وتقنيات الاستنتاج. احترت كثيراً، أنا الروائية التي تَغبِط الشعراء على قدراتهم السحرية التي تخولهم حياكة نسيج شفاف يعبر منه الضوء ويخفي في الوقت عينه آفاقاً لا تتكشف إلا لمعتنقي جماله الخاص، أحسدهم على قدرتهم على قول ما يراه كل قارئ من زاوية إحساسه وعلى صياغة ألغاز لا تكاد تفك طلاسمها حتى تظهر خلفها ألغاز أخرى. الرواية أقل تعقيداً، تكاد تتعرى أمام القارئ المحترف، تستعير أحياناً من الشعر رموزه وتسرق بعضاً من غموضه، ولا تضاهيه.

ديوان “من مسافة صفر” للشاعر علي الرفاعي عالم كامل، بتعقيداته وغموضه، بخيانته المستمرة للناقد، بانفتاحه أمام شغف المستكشف وبإغلاق أبوابه أمام الرغبة في إيجاد معنى نهائي.

لكن اليد لا ترتجف، والإصبع على الزناد مدرك مهامه، مهاماً استنبطها من عمق التاريخ حين عرف أنه شاعر. وهو بطبيعته شاعر. لا يتصنع صوراً أو يبحث عن عبارات مدوية بقصد إبهار القارئ، بل ينساب الشعر منه كدمه، كالأعاصير التي تجتاح فكره، كتجربة الموت والانبعاث التي ما فتئ يخوضها مع كل قصيدة.

“ليتني وطن” يبتهل، يهفو نحو الأسمى والأكمل، يتسلق الاسئلة، واحداً تلو الآخر، يتكئ على الحيرة، يستكشف طرقات الجلجلة. كان يمكن لعلي أن يتقوقع حول أناه يستكشفها ويكشفها، يدور حول جراحه الشخصية، يروي أفراحه أو هزائمه، يصم أذنيه عن الصراخ المتصاعد من حوله، لكنه  اختار أن يكون فارساً منذوراً للحرب على الظلام والظلم، مفضلاً الحركة على الجمود، المطر على القحط، درب الجلجلة محملاً بآلام شعبه على الاستلقاء في فيء الكلمات، خوض المعارك وسط الخراب على كل الأبراج العاجية.

والشاعر يتطهر بالثورة من دنس القطعان الهاربة صوب حتفها، يتمرد على الصمت والخنوع، يمتشق أسئلته في وجه حاملي الأجابات التي لا تؤكد إلا سلطتهم:

“يخاف الطغاة عيون الضحايا

تخاف السجون انعكاس المرايا

تخاف القبور حداء الوصايا

وتخشى الدروب الطويلة نبضاً خفيّاً

يفور كثيراً بصدر الحكايا

فغنِّ وغنِّ وغنِّ وغنِّ

وكن فوق هذا الخرابْ

شرارة رفض وعود ثقاب”

في مسار المعرفة، يخوض السائر الموت ليصل إلى الانبعاث، يختبر المتعلم فوضى العالم من حوله وحالة من عدم الاستقرار، وهو لا يمر بتجربة فردية للموت، بل يموت عالمه الماضي ليولد عالم جديد. بتفسير أوضح، يحمل مسار المعرفة التكويني تجارب معنوية وجسدية قاسية، فيحصل على إثرها لديه نضج ووعي جديدان. ولعل هذا المسارالتكويني هو الذي يرسم الخط البياني لصور علي الشعرية وهو يتجلى بوضوح في قصيدة «آخر الرؤى. تبدأ القصيدة بالرغبة في موت ما كان سائداً وقد أدرك الباحث أن هذا الموت ليس نهاية:

“ها أنا أخلع الآن شرنقة الوقت

أدخل هذا السديم وحيداً…

وحيداً أفتش عن أي درب

ستفضي إلى أي باب

تعبت

تعبت

أريد الرحيل”

وما يميز المسار التكويني للشاعر هو وعيه لكل المراحل التي يمر بها:

“أعبر الآن وهم المسافة ما بين ثقب وثقب

يسمي الرواة عبوري حياة

أموت

فأستوعب المسألة

تحت أنقاض بيت تهاوى

أرمم في روحي البسملة”

حتى يصل إلى مرحلة الانبعاث إذ تتجلى أمامه المهمة الموكلة إليه كما لكل شاعر:

“سأخرج عن نص الوجود قليلاً

لكي أطرح الأسئلة.”

أما الانجذاب نحو الصمت، ذلك الذي يرافق كل أديب صادق مثل مرض مزمن، ذلك الذي يتجلى بشكل خاص أمام بطولة المقاومين، كأن يكتب لدلال المغربي قصيدة تبدأ باسمها، وتسير فوق نقاط العجز عن التعبير، حتى تصل إلى عبارة “والصمت أبلغ ما يقال”، أو حين ينحني أمام عظمة المقاومين فيكتب:

“أنا قليل

وحرفي ضيّق

ودمي يحاول الشعر

إن الحبر لا يجدي.”

ذلك الانجذاب المرافق للكتابة لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً وأن يعود الشعر إلى إتمام رسالة الحرف التي وجد لأجلها لتبقى “لاؤه” تعشب في طين هذا الوطن الممزق بين الطغاة والضحايا.

في شعر علي الرفاعي وحده الحب يداوي الجراح، يرفع أنواره وسط الظلمات المحيطة به من كل جنب، يصل بالسائر على درب المعرفة إلى مساحة القيامة بعد المرور بالموت والتمرد عليه، يطلق طائر الفينيق ليعلن حياة جديدة بعد أن ينفض رماد الحياة الماضية التي تخطاها، ويجترح جنة تسمو فوق الخراب.

علي، لا يمكنك أن تكون أنت بغير هذا المسار، لا يمكنك إلا أن تختار الطريق الوعر، لا يمكن إلا أن تسبح عكس التيار، أن تكون ذلك البطل الإشكالي الذي تحدث عنه النقاد، وفي ذلك ألم كبير ولكن فيه أيضاً سعادة واكتمال.

كان أنطون سعاده ليعتز بشاعر مثل علي الرفاعي، يحصل على الجائزة التي تحمل اسمه في دورتها الأولى، شاعر متمرد على موت الثقافة، مجترح شعراً يشبه الأدب الي كتب عنه قائلاً:

“القاعدة الذهبية، التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى.” (الزوبعة، بيونس آيرس، العام الثالث،العدد 57)

عميدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي فاتن المر