أوروبا، انتحار قارّة

ما الذي يفسر هذا المستوى من الانحدار السياسي للإمبرياليات الأوروبية، وتبعيتها المطلقة لسيدة الإمبرياليات، الولايات المتحدة الأمريكية، في كل ما يخص مصالحها وسياساتها إزاء العملية العسكرية الروسية ضد المجموعة النازية المتصهينة في أوكرانيا والتي لم تتورع عن ممارسة كل أشكال القمع العنصري ضد الأغلبية الروسية في الدونباس.

في الإجابة على ذلك، نعرف أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ومشروع مارشال الأمريكي الذي أعقبها لوقف النشاط الشيوعي وإعادة هيكلة أوروبا ضمن نظام رأسمالي عالمي جديد تسيطر عليه واشنطن، وأوروبا الغربية بلا سيادة أمام الولايات المتحدة الأمريكية في المحطات السياسية الاستراتيجية، حتى أن واشنطن جرّت أوروبا المدمرة في الحرب الثانية إلى حروبها الإمبريالية الأخرى مثل الحرب الكورية.

بالإضافة للبعد الاقتصادي لمشروع مارشال الذي فرض سيطرة الشركات الأمريكية على الاقتصاد الأوروبي باسم إعادة الإعمار، تمثلت السيطرة الأمريكية بأدوات أخرى، وعلى رأسها حلف الأطلسي وكذلك إشراك المخابرات الأوروبية وخاصة البريطانية في معظم الجرائم الدموية التي نفذّتها المخابرات الأمريكية في أكثر من بلد وذهب ضحيتها ملايين البشر، كما حدث في اندونيسيا.

لم يخلو المشهد الأمريكي الأوروبي من تعارضات عابرة هنا وهناك، كما حدث بعد مشروع ايزنهاور لملء الفراغ، وكما حدث خلال السنوات الأخيرة للرئيس الفرنسي ديغول حين حاول إحياء نظام الذهب للحد من هيمنة الدولار على النظام النقدي العالمي.

كما ظلّت فكرة السوق الأوروبية والاتحاد الأوربي، موضع نقاش سواء داخل أوروبا نفسها أو في الداخل الأمريكي، لكن البنية الاقتصادية لمجمل النظام الرأسمالي العالمي في سماته الأمريكية ظلّت العامل الحاسم في الحفاظ على وحدة هذا النظام تحت سيطرة الإمبريالية الأمريكية.

مع ازدياد حدة الأزمات البنيوية الدورية للرأسمالية العالمية وتعاظم تداعيات وخسائر الحروب الناجمة عن الهرب من هذه الأزمات، ومع تداعيات الثورة المعلومات وتطور التقنيات المختلفة وخاصة الخروج المتزايد للملايين من سوق العمل، اختارت أوروبا رفقة واشنطن الهرب من هذه الأزمات عبر توسيع دور المجمعات الصناعية العسكرية واختلاق شماعة الخطر الروسي الصاعد في الشرق، كما سبق واختارت الحربين العالميتين للهروب من أزمة كهذه فكانت النتيجة دمارا هائلا في المرتين، ومن المؤكد أن المرة الثالثة ستكون أكثر كارثية عليها وقد يكون من تداعيات ذلك تفسخ بلدان هذه القارّة.

لوقت قريب، بدا وكأن موجة الانفصالات والكانتونات وحروب الهويات المختلفة، شأن شرقي بحت، سواءً شرق أوروبا أو شرق المتوسط، وانخرط العديد من الكتّاب الأوروبيين والأمريكيين ومن مشايعيهم جنوباً، في مقاربة ذلك بدلالة المركزية الأوروبية الأمريكية الرأسمالية، باعتبارها ظاهرة حضارية متجاوزة لهذه الموجة.

وكان تفكيك يوغوسلافيا، وقبلها الانهيار السوفياتي، ثم سيناريوهات تفكك الشرق، تجارب للنقاش في خدمة هنتنغتون وفلاسفة وكتّاب المقاربة المذكورة.

بل أن الأدبيات السياسية الاشتراكية ذات النزعة المادية، لم تتردد هي أيضاً في القول أن النزعات الانفصالية، والهويات الأقوامية والاثنية تنتمي الى عصر ما قبل الرأسمالية أو الرأسماليات المتخلفة، ولا مكان لها في أمريكا وأوروبا الغربية، حيث بوسع الاقتصاد الرأسمالي المتطور، دمج كل المكونات في دورته.

ولم يكن الصواب في جانب أي من هذه القرارات، كما برهنت الوقائع، ليس انطلاقاً من الظواهر والتجارب المعاشة، وحسب بل وفق التصورات النظرية الغربية نفسها كذلك.

ان ما حدث في كتالونيا وربما في الباسك قريباً، وما هو مرشّح في العديد من الجزر البريطانية مثل اسكتلندا وفي المقاطعات الايطالية الشمالية ، وفي كندا (كويبك)، وما يقال عن نزعات مفاجئة في كاليفورنيا الأمريكية، ليس غريباً ولا مفاجئاً، وقد يحول القارة العجوز الى رجل مريض كما كانت عليه تركيا العثمانية قبل انهيارها لصالح اوروبا.

 في ضوء الحيثيات والمعطيات والتصورات النظرية التالية:

  1. النزعة المتزايدة ضد ما يسمّى ب السرديات الكبرى : الهويات الجامعة لصالح الهويات الفرعية، الحزب لصالح الشبكاتية، الأيديولوجيا، التاريخ، الانسان، وكان من أبرز تعبيرات هذه النزعة، التفككية وفيلسوفها دريدا.

ولعل السردية الكبرى الافلة ، هي سردية دولة الثورة الصناعية ، اي الدولة الناجمة عن معاهدة وستفاليا 1648 ومنها دول اوروبا الغربية التي  تأسست  على  انقاض  الامبراطورية  الجرمانية  ومرجعيتها  البابوية ، وها هي  برسم  التفكك  من جديد،  اما على شكل  انفصالات  كاملة ، او  فدراليات امبراطورية .

ولم  تدخل  دولة وستفاليا  هذا  النفق  فجأة  او لاسباب  سياسية  بحتة كما  يبدو من التوترات  والهويات  الاقوامية ، بل ان هذه التوترات والهويات  كانت محصلة  لعصر ما بعد الثورة الصناعية، في بعديه ، التقني المعلوماتي ، والمالي النقدي وانعكاسهما في شكلين جديدين للدولة في الشمال الراسمالي: الاول دولة بريتون وودز، الاتفاقية التي اعقبت الحرب الثانية ، واسست صندوق النقد والبنك الدوليين كاطار للاقتصاد الراسمالي والانظمة السياسية المرتبطة به .

الثاني: دولة اجماع واشنطن 1989، الذي قرر فيه ممثلوا البنوك والبورصة والمؤسسات الامريكية المختلفة السيطرة على العالم من خلال التفريق بين الدولة المعاصرة ، في نظرهم، وهي دولة الاقتصاد المفتوح وبين ما اسموه بالدولة الفاشلة ، اي الدولة الحمائية والمهتمة بسياسات الرعاية الاجتماعية .

ويلاحظ في الحالتين ان دولة الثورة الصناعية والخطاب القومي( دولة وستفاليا) خسرت وظيفتها كدولة محتكرة للمعلومات والاحصاءات وتحولت الى دولة ملحقة بالثورة المعلوماتية

  • تبديات وتجليات العولمة فيما يعرف ب العقل التكنولوجي الأداتي، حسب مدرسة فرانكفورت، وهو العقل الذي أطاح بالحداثة، والثورة الصناعية، ودولتها التقليدية.

وثمة ما يقال هنا عن اقصاء الفكر كعمل من اجل الانسان لازم الثورات المعرفية الاربع : كوبرنيكس في القرن الخامس عشر وكذلك كبلر وجاليليو الذين اكدو عدم مركزية الارض ومعها عدم مركزية الانسان . وداروين في القرن التاسع عشر الذي رد الانسان الى تطور مشترك مع اسلاف اخرين، وفرويد الذي وضع اللاشعور مكان العقل عمليا، واخيرا الثورة المعلوماتية.

  • على هذا الصعيد يشار الى ثلاثة مفكرين  هم الانالات الثلاث :

الفرنسي ، الان تورين في كتابه ما بعد المجتمع الصناعي، والامريكيان : الان تورينغ في كتابه الذكاء والحاسوب، 1945 ، والان توفلر في كتابه تحول السلطة.

فحسب توفلر، فإن الدولة المعاصرة، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، دخلت في تناقض مع التحولات الكبرى التي طرأت عليها، وصارت هذه الدولة الناجمة عن الثورات البرجوازية، واتفاقية وستفاليا ، مفارقة لهذه التحولات الجديدة وعالم ما بعد الدولة القومية.

 ويشايع توفلر، الكاتب والدبلوماسي البريطاني، كان روس في كتابه الشبكاتي (ثورة بلا قيادات).

  • وبالمجمل، فإن حالة ما بعد الثورة الرأسمالية الصناعية والتقنية، وما بعد الدولة وما بعد الحداثة ومجتمعها، تطلق أيضاً آليات التفكيك والهويات الاثنية.

وبالمقابل، فإن حالة ما قبل الثورة الصناعية، وما قبل الدولة والمجتمعات المندمجة، في الجنوب العالمي ومنه الشرق العربي، تطلق أشكالاً أخرى من التفكيك والهويات القاتلة..

وهنا وجه الاختلاف بين الأشكال الأولى في الشمال والأشكال الثانية جنوباً، فالظرف الموضوعي في الثانية شديد الصلة بالاستحقاقات المبرمجة في دوائر وأقلام الاستخبارات الأطلسية، وسيناريوهات تقطيع أوصال الدول المركزية والشمولية، وتمزيقها إلى كانتونات ولا مركزيات طائفية وجهوية.

ولعل أبرز تجليات ذلك الحديث المتزايد عن اللامركزية والفدرلة، وتسويقه من قبل مثقفي (المارينز) والثورات الملونة كتجسيد للحاجة الموضوعية للعولمة، ومن ذلك تسويغ البعض للاستفتاء الكردي الأخير ومقارنته باستفتاء كاتالونيا، كتعبير عن حق تقرير المصير القومي، كما تبناه الاشتراكي الكبير، لينين..

 وها هنا، فإن القياس أكثر منه حالة صورية لا تراعي الشروط والسياقات الموضوعية، بل أداة مضللة يعرف المتورطون فيها ماذا يقولون وماذا يقصدون.

ان العولمة الرأسمالية وهي تطلق النار على دولة الحداثة المركزية وتبعثرها، وتضعها أمام خيارين: الاستقلال التام أو الفدرلة، فإنها لا تفعل ذلك بالمستوى والخطاب والأدوات والغايات نفسها بين الشمال والجنوب.

فالتشظي جنوباً ليس نتاج التحولات الكبرى كما في الشمال، بل حاجة (اسرائيلية) بالدرجة الأولى.

وفي سياق لعبة جديدة للخرائط والحدود والهويات، ترث سايكس بيكو ودولة البيروقراطية الشمولية، لصالح لامركزيات وفدراليات أو كونفدراليات في المحيط الاسرائيلي، محيط يهودية الدولة..

د.موفق محادين