قانون قيصر الموت الرحيم لسوريا ولبنان 

يتحدث أحد المتمولين الشاميين عن واقع حال الشعب في سوريا قائلاً أنه مأساوي جداً في صقيع هذا الشتاء لان محروقات التدفئة غير متوفرة  واذا توفرت الثمن غالي جداً كذلك المواد الغذائية.

ولأنه كثير السفر بين البلدين اضاف مقارنا الفرق بيننا وبين لبنان، ان المواد في لبنان موجود لكنها باهظة الثمن  …..انه وصف صحيح للحال عن لبنان وسوريا, وهذه المواد الكافرة بينهما، اليوم هي قانون قيصر الذي يجمع الكيانان بلعنته بعدما شاءت الولايات المتحدة الاميركية، وقياصرتها في هذا الزمن ان تحاصرنا   لتطويعنا.

أن تكون بلادنا في وسط العالم يبدو أنها في موقع النقمة وليس النعمة. . . هذا هو لب المشكلة، كيف إذا أضفت عليها ثروات هذه المنطقة في العالم وتاريخها الحضاري ومطامع قوى الإستعمار بها منذ مطلع القرن السابق، عندما وعد بجزء منها هو لا يملكه  لمن لا يستحق. وكان وعد بلفور ثم سايكس بيكو حيث وزعت البلاد بين أزرق وأحمر، لفرنسا قسم ولبريطانيا جزء آخر، وجاء هذا التقسيم بعد حصار بحري وبري خضعا له جبل لبنان وبلاد الشام: بحري قام به الحلفاء الإنكليز والفرنسيين، وقطعوا سبيل التجارة، وبرّي قام به العثماني المحتل وسانده الجراد الذي أكل كلّ أخضر وكل غذاء في الأرض، ما أدى إلى مجاعة كبرى قضت على ثلث سكان جبل لبنان بالموت جوعاً وبالهجرة أيضاً. أما من بقي حياً، فكان بفضل قمح حوران الذي اخترقت مكاريته الدروب الوعرة، وأنقذ الناس. هذه المعابر تعتبر اليوم مداخل غير شرعية، ويراهن بعض المرتهنين والإعلام وحملاته المرتبطة بالسفارات على إقفالها منعاً لأي تواصل بين كيانين لا يعيشان دون أحدهما الآخر.

إشارة لا بد منها أنه عندما قرر الفرنسي غورو مع رجال الدين وعلى رأسهم البطرك حويك المضي قدماً في إعلان دولة لبنان الكبير تم ضم سهلي البقاع وعكار ومرفأي  بيروت وطرابلس اليه  حرصاً على تدعيم هذا الكيان بأراضي زراعية وعلى إيجاد منافذ بحرية له تسهل له التبادل التجاري، كي لا تتكرر فيه المجاعة، علماً انّه كان هناك رفض كبير من أبناء هذه الأطراف التي ضمت إلى الكيان نظراً لخشيتها من إنهيار واقعها الاقتصادي والمعيشي، لكن الوعود التي أعطيت للتجار بإعطائهم تسهيلات تجارية دفعت بالأمور إلى التهدئة.

الحصار الذي تعاني منه اليوم الشام (سوريا) ولبنان يشبه حال الحصار منذ نحو مئة عام، لكن الفرق أن كل السبل مغلقة بفعل قانون جائر، صنعته دولة  وليس جهة دولية شرعية قائمة، لا مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة بل الإدارة السياسة الاميركية التي قررت أن تعاقب سوريا بعد انتصارها على حرب كونية طاحنة دمرت البلاد والعباد، وكان سبق لها أن جعلت من الإرهاب التكفيري مطية، ولما انتصرت سوريا ومعها حلفاءها ، إيران وروسيا والمقاومة اللبنانية لم يعد أمام الأميركي بعد عشر سنوات، سوى حرب اقتصادية مدمرة، لما تبقى من قدرات لدى النظام السياسي والشعب السوري، كان قانون قيصر واجهة هذه الحرب الاقتصادية هو قانون عبارة عن حصار شامل لسوريا والجوار، أقره الكونغرس الاميركي عام 2019 على عهد الرئيس الجمهوري ترامب بحجة معاقبة النظام عن جرائم ضد الانسانية ومجازر جماعية ارتكبت ضد السوريين .

تخالهم هنا يتحدثون عن ارتكابات التكفيريين التي لم تترك مدينة ودار عبادة إلا دمرتها ولا معملا إلا وسرقته، كما لم تترك مواطنا سوريا في منزله.

هذا القانون الجائر الذي أقره الحزبان الجمهوري والديمقراطي معاً تريد منه واشنطن أن يستمر لمدة عشر سنوات، هدفه تضييق الخناق على الأفراد والمؤسسات والشركات وكل ما يدعم الصناعة السورية بكل انواعها وإنتاج الطاقة والبنى التحتية وإعادة الإعمار كذلك الدول الداعمة لا سيما لبنان الملتصق بالجغرافيا والتاريخ بعمقه القومي، والذي يشكل منفذ بحري أساسي لسوريا.

هكذا تستطيع أميركا بموجب هذا القانون فرض العقوبات المالية والتجارية كما يجري الآن حيث تستطيع أميركا بموجب هذا القانون، دفع المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية إلى مواجهة أي خلل في تنفيذ مضامينه تحت تهديد لبنان بالعقوبات.

أخطر ما تتعرض له سوريا المحاصرة اليوم  ليس في منعها من إدخال المواد الغذائية ومواد الطاقة، بل إنها بانت محرومة من نفظها وغازها وسلة غذائها، نظراً للإحتلال العسكري الأميركي المستمر إلى الآن لمنطقة شرق سوريا، حيث لا يزال الجيش الاميركي يحتل 28 موقعاً وقاعدة عسكرية في أكثر مناطق  سوريا غنى وخصوبة، الحسكة ودير الزور حيث يتواجد ثلاثة الآلاف جندي، يستظلون وجود منظمة قسد الكردية، وهكذا يتسنى لأميركا استمرار عمليات القرصنة والسرقة وحرمان سوريا من ثرواتها الطبيعية لآبار النفط والغاز وحقول القمح والتي كانت تؤمن إكتفاء ذاتياً لسوريا ومردوداً مالياً من العملات الصعبة لما كانت تصدره للخارج.

هذا الاحتلال المستمر وسط صمت دولي مريب هو إنتهاك خطر للقانون الدولي وإتفاقية جنيف بشأن  التعامل بين الدول وحقوق المدنيين أثناء الحروب التي تحظر بوضوح أعمال النهب والمصادرة غير المشروعة للمتلكات العامة.

إذا كانت الولايات المتحدة تزعم أنها أقرت قانون قيصر حرصاً على الشعب السوري يمكن قراءة واقع الشعب السوري ما بعد اقراره وفي ظل استمرار الاحتلال الأميركي لشرق سوريا،  اذ أدى لتضخم كبير في العملة السورية. كان  الدولار يعادل 45 ليرة سورية عام 2011، فوصل في العام 2019 الى 2000 ليرة سورية وتجاوز العام 2021 إلى 4000 الآف ليرة ولا يزال مستمراً في الصعود، كما أدى إلى ارتفاع هائل للأسعار للمواد الغذاىية والمشتقات النفطية بعدما انخفض إنتاج سوريا من النفط الخام إلى نحو 16 ألف برميل يوميا يرسل إلى مصفاة حمص الحكومية، في مقابل 380 ألف برميل كان تنتح يومياً في الحسكة ودير الزور وقد كشفت الخارجية السورية في كانون الأول الماضي عن قيمة الاعتداءات المباشرة للقوات  الأميركية على أراضيها من النفظ والغاز المسروق والتي بلغت 25.9 مليار دولار.

هكذا تحولت الدولة المصدرة والمكتفية ذاتياً بالنفط والغاز والغذاء، دولة تستعطي هذا كله في ظل عقوبات تواجه كل من يجرؤ على التعاطي معها مما عطل قدراتها الانتاجية والصناعية كافة، بعد حرمانها حتى من قطع الغيار لمعاملها ولطائراتها والبوينغ التي لا يزال ثلاثة طائرات منها تعمل في مطارها.

قانون قيصر الذي يحاصر سوريا من جهة العراق وقواتها وقواعدها على ضفة الفرات يستهدف إقفال الممر البري بين سوريا والعراق وصولاً إلى إيران، وكذلك من جهة الأردن وأيضاً من جهة لبنان حيث تعتبر سوريا بوابته البرية الوحيدة. وهذا يجعل الشعب أمام ضائقة اقتصادية كبرى وبعدما فاقم الأمر كثيراً تفجير مرفأ بيروت في 4 آب من العام 2020، في صدفة مريبة تفتح الباب واسعاً أمام استنتاجات عديدة، هذا عدا ما قرره الكونغرس الأميركي تجاه لبنان، من تدابيرعلى المصارف والشركات، بقصد جعل لبنان على شاكلة فنزويلا، وقد أدى الأمر إلى تضخم كبير في  الليرة اللبنانية،  ووصلت قيمة الدولار اليوم إلى نحو 50000 ليرة لبنانية، مع تقديرات من الخبراء بالمزيد من التضخم في الايام المقبلة.

كما انعكس ذلك غلاء فاحشا بدءاً من الرغيف والمواد الغذائية إلى حليب الاطفال والى الدواء اذا وجد.

هنا يمكن القول أن رضوخ السلطة اللبنانية لمفاعيل قانون قيصر ووقفها أي تبادل تجاري مع سوريا إلا من  دون إذنها ومن خلال المعابر غير الشرعية، مما أدى بها إلى سياسة لحس المبرد فقد أوقفت كل تبادل تجاري، حتى أنه حول طريق الترانزيت إلى الخليج بحراً بدل سوريا براً، حيث لم يعد بإمكان لبنان المنافسة في هذا السوق وهكذا خضع لبنان لمفاعيل التجويع التي تشبه ما أصابه في مطلع القرن السابق. هذا أدى إلى إنهيار القطاع الزراعي بعد الانهيار الذي أصاب القطاع الصناعي، بعد الانقطاع للتيار الكهربائي، وهذا بات واقعاً مشتركاً بين لبنان وسوريا. فيمكن القول أن افتقاد لبنان للعملة الصعبة نتيجة عملية معقدة للغاية كان من أبرز تداعياتها إخراج العملة الصعبة من المصرف المركزي، هذه العملية اختلط فيها الفساد بالإرتهان السياسي للسياسة الأميركية من قبل السلطة السياسية وحاكم مصرف لبنان، وهذا الأمر كان أحد أبرز مساعدي قانون قيصر على تحقيقه نتائجه المرجوة من الأعداء.

 الآن بعدما وصلت نسبة الفقر في لبنان إلى ما دون 80 % وتردي القدرة الشرائية بالكامل وانتشار الفقر وانهيار الطبقة الوسطى بالكامل واعتماد اللبنانيين على العملة الصعبة التي تردهم من أبناىهم في الخارج وعلى مساعدات NGOS، مما يهدد برهن خيارات لبنان السياسية بالكامل في كيان تستهدف الولايات المتحدة منه إخضاعه بعد انتصاره على كيان الاحتلال الاسرائيلي، وبعدما سادت حالة تطبيع الأنظمة في المنطقة والتي تستهدف من خلاله إضعاف لبنان وبيئته الشعبية المناوئة لأي استسلام وتطبيع مع كيان الاحتلال الغاصب. فإن هذا القانون الجائر، الذي تزعم أميركا ومن معها أنها تقصد منه حماية الشعب ما هو إلا وسيلة حرب اقتصادية جديدة على بلادنا، تقصد منها إفراغ الطاقات الشابة واستغلال ثرواتنا واستسلام قوتنا، لذا لم يعد امام الأحرار والشرفاء في البلدين، إلا المبادرة لمواجهة هذا المشروع عبر خيارات استراتيجية متاحة اليوم بعد  اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية وما سيفتحه أمام لبنان من أفق بعدما فلح هذا القانون في تعزيز حالة عداء غير مقبول بين الكيانين الشامي واللبناني، لأن مخاطر استمرار لبنان خاضعاً لمفاعيل قانون قيصر، لن يجعل منه خاصرة رخوة وحسب لسوريا، بل سيكون موطن للمؤامرات نحو سوريا بما يتخلله من تمزيق للنسيج الاجتماعي الواحد لشعبنا والذي صنعته الجغرافيا وأكده التاريخ.

لا بد من خطوات شجاعة تعيد إكسير الحياة من جديد إلى عروق أمتنا وتعيد العلاقات السليمة الى كيانين في امة واحدة.

الامينة كوكب معلوف