دمشق: أمويّة…؟ في البحث عن المعنى

-1-

قام ياقوت الحموي (1178 – 1229) م، صاحب «معجم البلدان»، بزيارة دمشق مرات عدّة واستمع إلى أهلها وكتّابها، وقرأ في المخطوطات التي تتناولها، وتردد على مختلف جهاتها من غوطتيها إلى قلبها داخل السور مع جامعها وأسواقها. يقول الحموي إنَّ دار نوح كان في دمشق وإنَّ «أول حائط وضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان – (أخذ ياقوت هذه العبارة من تاريخ ابن عساكر حيث وردت فيه بصيغة أنَّ الحائط وضع أولاً في حرّان ثم دمشق ثم بابل)»، ويتابع ناقلاً ما سمعه وقرأه عنها «ويقال: إنّها كانت مأوى الأنبياء ومصلّاهم، والمغارة التي في جبل النّيرب يقال: إنّها كانت مأوى عيسى، عليه السلام، ومسجدا إبراهيم، عليه السلام، أحدهما في الأشعريّين والآخر في برزة، ومسجد القديم عند القطيعة، ويقال: إنَّ هنا قبر موسى، عليه السلام، ومسجد باب الشرقي الذي قال النبي، صلى الله عليه وسلّم: إنَّ عيسى، عليه السلام، ينزل فيه، والمسجد الصغير الذي خلف جيرون يقال إنّ يحيى بن زكرياء، عليه السلام، قتل هناك، والحائط القبلي من الجامع يقال إنه بناه هود، عليه السلام، وبها من قبور الصحابة ودورهم المشهورة بهم ما ليس في غيره من البلدان، وهي معروفة إلى الآن – معجم البلدان، ص 464».

يصل ياقوت الحموي بعد شروحات مستفيضة عن دمشق وما فيها من جمال وما تتميز فيه من صفات فريدة، يصل للقول: «… وجملة الأمر، لم تُوصف الجنّة بشيء إلّا في دمشق مثله – معجم البلدان، ص 465».

-2-

تثير الخلاصة «الياقوتيّة» عن دمشق الخيال وتستدعي التساؤل فيما إذا كان الحموي يعتبر أنَّ دمشق منسوخة كواقع عن وصف الجنّة، أو أنَّ الجنّة الموصوفة في النصّ القرآني وغيره من النصوص الدينيّة هي قراءة لدمشق وواقعها وتكوينها؟

وإذا كانت المدوّنات التاريخيّة والأبحاث الآثاريّة، تُعيد ولادة دمشق كمكان لحياة الإنسان إلى نحو 12 ألف عام أو أكثر، وهو ما أوحى لـ ياقوت الحموي وغيره من الرواة للقول بأنَّ «نوح» كان مقيماً فيها، في تأكيد على أنَّ وطن السرديّة الدينيّة بأغلب مكوناتها وأشخاصها من أنبياء وصحابة ليس سوى دمشق.

غير أنَّ السرديّة الدينيّة تلك التي تحاول التأريخ للقص الديني بأمكنته وأشخاصه وحوادثه، لن تتوقف عند إيجاد بيت لنوح في دمشق وحسب، بل ستذهب نحو الأقصى، نحو بداية البشريّة على الأرض مع آدم، حيث ستكون دمشق المكان الذي حلّ فيه آدم مع عائلته بعد نزوله من السماء كعقاب إلهي، وسيتأكد ذلك بقيام قايين بقتل أخيه هابيل في روابي دمشق الغربيّة، ليفتح جبل قاسيون فمه ألماً على أول جريمة في التاريخ، وتبقى مغارة الدم فيه شاهداً على الإثم الأصلي الذي دمغ ولا زال الإنسانيّة في مسيرتها دون أن تتمكن من الانفكاك عنه أبداً.

الازدحام الذي شهدته دمشق لشخوص السرديّة الدينيّة ومسيرتها الدراميّة، وخصوصاً في قصّها الأولي عن بداية البشريّة على الأرض، سيعطي دمشق مكانة خاصّة واستثنائيّة، ليس بكونها أرضاً مقدسّة، ولا «شام شريف» كما ستوصف لاحقاً في سياق العلاقة مع الإسلام المحمدي وحسب، بل بكونها المِنصّة التي استقبلت الإنسان الساقط من السماء، والتي منها تحديداً يمكن للعين الإنسانيّة أن تطرف نحو السماء لشدّة اقترابها منها، في استطراد افتراضي لمنطق السرد الديني.

دمشق بهذا المعنى هي المكان الذي منه تطلّ الإنسانيّة على غسق السماء. هي السلّم الذي نزل عليه آدم، والسلّم الذي سيصعد منه إلى السماء، عندما تحين الساعة.

-3-

لكن، كيف تُرى دمشق بحساب التاريخ؟

إنْ تركنا جانباً الحديث عن المستوطنات البشريّة التي يعود عمرها إلى قرابة 10 آلاف عام، وخصوصاً «تل الأسود» التي وثّق عمرها وما وُجد فيها، من لُقى وبقايا إنسانيّة، علم الآثار المستند إلى نتائج التنقيبات التي قامت بها الفرق السوريّة – الفرنسيّة المشتركة، والتي تؤكد وجود أول مخزن قمح في التاريخ فيها. إنْ تركنا البحث فيها جانباً لأسباب منهجيّة، نرى أنَّ دمشق كحاضرة مدنيّة بدأت تتشكّل في المكان الذي هي عليه الآن، منذ أكثر من 5 آلاف عام.

في هذا العمر المديد، مرت عليها أقوام وحملات عسكريّة وغزوات. استقبلت هجرات سكانيّة كبرى وصهرتها في بوتقتها. الآشوريون والبابليون جاءوا إليها. الفرس احتلوها وخرجوا منها. الآراميون بنوا مجدهم منها في الألف الثانية قبل الميلاد. مع قدوم الاسكندر المقدوني في العام 331 قبل الميلاد دخلت في العصر الهلنستي مع أخواتها الأخريات وخصوصاً في عصر الإمبراطوريّة السلوقيّة. في القرن الأول قبل الميلاد دخلت في إطار الإمبراطوريّة الرومانيّة حتى القرن السابع عندما أصبحت قاعدة الدولة الأمويّة التي انطلقت منها لبناء أكبر إمبراطورية إسلاميّة في التاريخ (661 – 750) م، ليتوالى عليها، ويمرّ فيها، لاحقاً: العباسيّون والطولونيّون والاخشيديّون والقرامطة والفاطميّون والسلاجقة والأيوبيّون والمماليك والمغول والعثمانيّون الذين غادروها في أيلول 1918 وفي قلبهم حسرة لم يُخمد نارها مرور أكثر من قرن مضى.

استعصت دمشق على الحملة الأوروبيّة «الصليبيّة»، التي لم تتمكن من دخولها رغم حصارها في منتصف القرن الثاني عشر (تموز – 1148)، غير أنَّ الفرنسيين عادوا بعد أقلِّ من ثمانية قرون ليدخلوها، ولكن بعد معركة شرفيّة استشهد فيها وزير دفاع حكومة المؤتمر السوري العام يوسف العظمة في 24 تموز عام 1920.

ما بين أيلول 1918 وتموز 1920، شهدت دمشق ولادة حكومة استقلال البلاد السوريّة، لأول مرة في العصر الحديث، وشهدت تأسيس وقيام المؤتمر السوري العام الذي شكل الهيئة التأسيسيّة للدولة السوريّة العتيدة. كانت دمشق حينها عاصمة بلاد تقف وحيدة في وجه أعتى المخططات الاستراتيجيّة التي تمكنت من تمزيقها وتفتيت وحدتها السياسيّة والاجتماعيّة وبفرض الانتداب عليها على أساس خريطة سايكس – بيكو وتعديلاتها.

لم يكد يخرج آخر جندي فرنسي من البلاد في العام 1947، لتشهد دمشق ولادة عهد الاستقلال الذي اتخذ المنحى السياسي المدني، ليقع فيها أول انقلاب عسكري في 30 آذار 1949، بقيادة حسني الزعيم، الذي انتُشل فجأة من ماضيه الفاسد وفضائحه المستمرة واستُجلب إلى صفوف القيادة بعد أن كان مُبعداً بسبب سلوكه، ونُصّب بانقلاب عسكري قائداً ورئيساً للجمهورية الفتيّة!!

يقول الأميركي مايلز كوبلاند الموظف في السفارة الأميركيّة في دمشق حينها، والذي وضع كتاب «لعبة الأمم» الشهير… يقول: «كان انقلاب حسني الزعيم يوم 30 آذار 1949، من إعدادنا وتخطيطنا. ص 73». وقد أصبح معروفاً أنَّ الذي قاد الانقلاب وأشرف عليه كان الملحق العسكري في السفارة الجنرال ميد. وقد وثّق الرائد السينمائي السوري محمّد ملص تلك الحقبة، منهياً شريطه السنمائي «الليل» بتمثال لحسني الزعيم رمزاً لآفاق سورية المغلقة بالحكم العسكري منذ ذلك الوقت.

منذ تلك اللحظة، تم الدفع بالجيش السوري للإقامة في دمشق لحماية نظام الحكم. يندر أنْ خرج الجيش تماماً من دمشق، حتى في أوقات الحروب مع إسرائيل. من حينها لم يعد الجيش متفرّغاً للجبهات مع الأعداء، فشهدت دمشق سلسلة من الانقلابات العسكريّة المتعاقبة إلى أن استقرّ الحكم مع نجاح وزير الدفاع حافظ الأسد في تولي السلطة في تشرين ثاني 1970، ليخلّفه ابنه بشّار الأسد في العام 2000، الذي واجه احتجاجات شعبيّة ابتداءً من 15 آذار 2011، انتهت بعد أقلِّ من 14 سنة بدخول قوات هيئة تحرير الشام دمشق في 8 كانون أول 2024، واستلامها مقاليد السلطة في البلاد.

-4-

منذ بعض الوقت، تتردد في دمشق عبارة: «أمويّة» في إشارة إلى هويّة دمشق، وفي ردّ على افتراض مُتداول بأنّها كانت «إيرانيّة – شيعيّة» خلال العقود الأربعة الأخيرة خصوصاً؟!

النداء، «دمشق أمويّة» يشير صراحة إلى أنّها استعادت هويّتها التي كانت مسلوبة ومستباحة، ويحدد في الوقت نفسه معنى هذه الهويّة ومضمونها. ودون عناء يمكن معاينة هذا النداء الاختزالي الذي يسلب دمشق معناها التاريخي الحضاري ويحشرها في هويّة طائفيّة تتجلبب بقناع تاريخي أموي.

النداء لا يعي المعنى الأخير للأمويّة، ولا طبيعة العلاقة بين الأمويين ودمشق، بل يتبنى السرديّة الرائجة التي أنتجت المذهبين الرئيسين: السني والشيعي، في إطار الصراع على السلطة واحتكار الخلافة الاسلاميّة.

الصراع على السلطة، تعبّر عنه حوادث تاريخيّة معروفة، تعبّر عنه معارك، أنتجت طرفاً منتصراً وآخر مهزوماً. لكن (التنظير المذهبي) جاء لاحقاً. ليس معاوية ولا من خلفه اختزل الدعوة المحمديّة بمذهب أسماه «السنّة»، ولا عليّ اختزل تلك الدعوة بمذهب أسماه «الشيعة». السنّة والشيعة حاصل صراع على السلطة – الخلافة، تأصّل خلال التاريخ وأنتج لنفسه حيثيّات ومبررات عابرة لـ (سببه) ومرجعيّات و«شرعيّات» في فضاء من الشروحات والتفاسير والاجتهادات المسنودة بانقسامات حادة أدت كلها مع غيرها من العوامل المساعدة إلى تكريس مذهبين كل واحد منهما يعتبر نفسه أنّه الدين الإسلامي.

في اللحظة الأمويّة التي ابتدأت في دمشق العام 661 م، لم تكن السنّيّة موجودة ولا الشيعيّة أيضاً، بالمعنى المذهبي الذي نعرفه اليوم. المعنى الذي اكتسب سرديّة تاريخيّة تواصل تغذية نفسها على مدار الوقت.

«دمشق أمويّة»!

حسناً، كانت هائلة تلك العقود التسعة (661 – 750) م، عظيمة، ما بين حديها الزمنيين قامت أكبر امبراطوريّة إسلاميّة في التاريخ. بلى، ولكن ماذا نفعل بالآلاف الخمسة الأخرى من تاريخ دمشق؟

ثم، ماذا لو خرجنا من صندوق القراءة الاعتياديّة للإمبراطوريّة الأمويّة، لنرى فيها استعادة للحوض الجيوسياسي للإمبراطوريّة السلوقيّة (312 – 63 ق.م)، التي وصلت في حدودها الشرقية إلى أفغانستان وتركمانستان، ووقفت كندٍ كبير في وجه الإمبراطوريّة الرومانيّة من الغرب.

بل، وماذا لو رأينا في هذا الحوض الممتد من مصر غرباً إلى الهند شرقاً الذي غطته الامبراطوريّة الأمويّة، رأينا فيه «العالم» نفسه الذي سيطرت على مراسلاته الرسميّة ووثائقه السياسيّة، اللغة الآراميّة، بوصفها لغة الثقافة العالميّة، ابتداءً من القرن السادس قبل الميلاد.

أيضاً وأيضاً، وخارج صندوق القراءة الاعتياديّة، ماذا لو رأينا في الإمبراطوريّة الأمويّة نجاحاً مؤجلاً للمشروع التدمري الذي بدأ مع سبتيموس أودينثوس وتابعته وقادته من بعده زوجته الملكة سبتيما زنوبيا بإيقاع إمبراطوري في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، فحوصر من الامبراطوريتين الرومانيّة من الغرب والفارسيّة من الشرق. الامبراطوريّة الأمويّة كسرت هذا الحصار ووصلت حدود الصين شرقاً، ودفعت الامبراطوريّة البيزنطيّة خارج سوريا، ووصلت إلى بوابات فرنسا الغربيّة.

«دمشق أمويّة»؟

بلى، باعتبارها المنِصَّة التي منها واصلت جيوسياسيّة الهلال الخصيب رحلة ارتسامها الامبراطوري الذي بدأ مع سرجون الأكادي الكبير مؤسس أول امبراطوريّة في التاريخ في الألف الثالث قبل الميلاد.

-5-

«دمشق أمويّة»؟

بلى، ولكنها ليست ثمرة جريمة سيواصل «الرواة» سرد قصتها وتردادها على مدار الساعة وإلى أنْ تقوم الساعة!!

وماذا لو أنَّ هذا «المُختَلَفِ عليه»، بين الرواة وبين المصادر التاريخيّة التي تتناول سيرته، يزيد بن معاوية، لم يكن تماماً على النحو الذي استطال فيه الخيال الروائي ليخرجه من الشروط التاريخيّة لمقتل الحسين بن عليّ، وينعته بصفات مطلقة، تقف موازية للصفات المطلقة التي يستمدها الحسين من نسَبه كحفيد لرسول الله؟ ما كرّس عقيدة حسينيّة مقابل عقيدة يزيديّة في صراع أبدي لا ينتهي!!

أيمكن مثلاً، رؤية يزيد في مجالسه مع سرجون ابن منصور، ومن ثم مع ولده يوحنا فم الذهب أعظم لاهوتي سوري ومشرقي وراسم الطقس الكنسي المسيحي المُكنّى بالبيزنطي والمستمر إلى الآن؟

هذه الرؤية التي نقترح الأخذ بها، تكسر النمطيّة الصارمة التي تعيد المشهد الأموي الدمشقي كله إلى إطار الواقعة الحربيّة الكربلائيّة وتأسره في مفرداتها.

ما نقترحه هنا، يأتي في سياق الدعوة للتحرر من استبداد الرواية المذهبيّة اللاحقة للحادثة التاريخيّة لمقتل الحسين والتي جاءت في سياق الصراع على السلطة، ولعلها، في بعدها العميق، جاءت في سياق التنازع على السيطرة على الحوض الجيوسياسي للهلال الخصيب بين جناحي الشام والرافدين؟

المشهد المسيحي الدمشقي في اللحظة الأمويّة، يشير إلى أنَّ النقاش الديني كان دائراً هناك، بين سرجون ومن بعده يوحنا من جهة، ومعاوية ومن بعده يزيد من الجهة الأمويّة. نقاش جاء في سياق استثنائي من حيث الوصول فيه إلى وضع مثالي لن يتكرر ثانية، حيث تم اقتسام كاتدرائيّة القديس يوحنا المعمدان بين الطرفين، فيما تتابعت عملية بناء الكنائس في غير منطقة ومدينة ابتداءً من كنيسة الرها في الشمال السوري التي بنيت برعاية معاوية.

النقاش الديني كان مع المسيحيين في دمشق، فلم يكن ثمة مادة مذهبيّة شيعيّة – سنيّة ولا بأية درجة، هذه المادة بدأت تتراكم لاحقاً ومتأخراً مع العهد العباسي.

«دمشق أمويّة»، بلى، لكنها لم تكن مذهبيّة أبداً.

-6-

دمشق، ليست مدينة عابرة بالنسبة للمسيحيّة.

ليس فقط، من كون يسوع تكلم لغتها الآراميّة التي شربتها صخور معلولا وستظلّ تتنفسها إلى أبد الأبدين.

بل، وأيضاً لأنَّ الرؤية البولسيّة حدثت فيها، في داريا سقطت الغشاوة عن عيني بولس وسطعت الرؤيا. وعند حنانيا تكرّس بولس مسيحيّاً. ومن نافذة باب كيسان انطلق نحو العالم. المأسسة الأولى للمسيحيّة قام بها بولس الذي تشكّل في المهد المسيحي – دمشق. و«سورية مهد المسيحيّة» هو العنوان الذي اختاره البابا يوحنا بولس الثاني لزيارته لدمشق في أيار من العام 2001.

لم يُوجد مكان لرأس يوحنا المعمدان «السابق» ليسوع كي يستريح فيه سوى دمشق. رأس ستحفظه «دمشق الأمويّة» مع تحويل الكاتدرائيّة التي بُنيت في العام 391 م، إلى جامع في عهد الوليد بن عبد الملك مطلع القرن الثامن (705 – 715) م، وسيمسي الحفاظ عليه من مقدّسات الإسلام في مختلف عهوده، وها هو دائماً وأبداً قرب محراب الجامع الأموي شفيعاً لدمشق وزوّارها.

الحوار الأموي المسيحي كان مستحيلاً لو لم يكن في دمشق. الحمولات المسيحيّة في هذه المدينة كان من شأنها أن وضعت الحوار في مرتبة مثاليّة. دون تلك الحمولات لم يكن لهذا التفاعل أن يتم، وكان التاريخ سيخسر حالة فريدة من مواجهة يُفترض نظريّاً أنّها ستجري في بحر من الدماء.

«دمشق أمويّة»، بلى، بدلالة رأس يوحنا المعمدان المقيم في كنيسته المقيمة في الجامع الأموي.

-7-

خسرت دمشق نخبها من العلماء والصناعيين والتجّار، في مناسبات متعددة، أهمها ثلاث:

الأولى، عندما اجتاحها المغولي تيمورلنك 1402 م، وأحرقها وأخذ نخبتها من الصنّاع والحرفيين والمتعلمين ونقلهم إلى سمرقند.

الثانيّة، عندما اندلعت أحداث العام 1860 الطائفيّة، وكان من نتيجتها تدمير صناعة النسيج (الحرير) في دمشق، وتسهيل هروب ومغادرة سادة هذه الصناعة إلى مصر وفرنسا. (إلى هذا اليوم يمكن لمن يدخل إلى حارة بولاد في حي باب توما، أن يرى ندوب تدمير معامل النسيج في العام 1860. كتاب تاريخ الفنون والصناعات الدمشقيّة لكاتبه الصناعي الدمشقي الذي ترك معامله مدمّرة وغادر إلى فرنسا السيد توفيق يوسف بولاد، وترجم الكتاب السيد الياس بولاد، مرجع موثوق في هذا المجال، مطبعة ألف باء. الأديب. دمشق 2003).

الثالثة، في السنوات الـ 14 الماضية، التي شهدت هجرة النخبة العلميّة السّورية عموماً، من مختلف الاختصاصات، مع بعض النخبة الصناعية والتجارية إلى دول تركيا والخليج ومصر والاتحاد الأوروبي وكندا، وغيرها.

الأزمات الكبرى، تبدو خسائرها التي لا تعوّض بسهولة واضحة في غياب النخب وهجرتها وابتعادها. البيئة الطاردة للنخب أكثر فاعليّة في هذا الحقل من الأزمات والحروب.

-8-

في البحث عن المعنى المُغيّب لما تنطوي عليه دمشق، يمكنكَ أن تبدأ بالكشف عليه من مختلف جنباتها، سيكون سهلاً عليكَ أن تبدأ من حيث أنت موجود… لو قيّض لك مثلاً، وبدأتَ من حي ساروجة، ومررت على مركز الوثائق التاريخيّة، قبل أن تلتهمه النيران في 16 تموز 2023، وبحثت عن كتاب «طبائع الاستبداد» للتنويري ابن حلب عبد الرحمن الكواكبي، وقرأت ما فيه وما ينطوي عليه، لما كنت سمحت لأي استبداد في الماضي القريب أن يحكمك، ولاحترزت جيداً من حلول أي استبداد يحكم حاضرك ويتربص بمستقبل أولادك… فقط كان عليك أن تقرأ جيداً «طبائع الاستبداد». (أشرتُ عليكَ بقراءة هذه النسخة لأنَّ الكواكبي نفسه راجعها ونقّحها بخط يده، فهو يعي جيداً أن السلطة، أية سلطة، يجب تنقيحها دائماً وحمايتها من عوارض الاستبداد).

قبل أن تغادر المركز، لا تنسى أن تتصفّح جريدة العاصمة للعامين 1919 – 1920، وأيضاً جريدة الدفاع للفترة الزمنيّة نفسها، سأقول لك بعد قليل لماذا؟

اترك مركز الوثائق التاريخيّة، واتجه غرباً نحو ساحة المرجة، سترى المشانق العثمانيّة لشهداء 6 أيار 1916، لا تزال ظلالها تلوح في الفضاء، أدر ظهرك لها، سيطالعك مبنى العابد، الذي اختاره المؤتمر السوري العام كمقر له بعد أن كان يجتمع في النادي العربي، وهذا المؤتمر هو الهيئة التأسيسيّة التي انبثقت منها السلطة السوريّة بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى وخروج العثمانيين من دمشق في أيلول 1918. في إحدى قاعات مبنى العابد الذي أمامك امتحن السوريون قدرتهم على قيادة بلادهم وفق نظام برلماني ديمقراطي حديث. في هذه القاعة نوقش مشروع القانون الأساسي للدولة، واستجوبت الحكومة في قضايا كثيرة، وألقت بياناتها ونالت الثقة عليها…

لهذا قلت لك تصفّح جريدتي العاصمة والدفاع، ستجد محاضر جلسات المؤتمر ومناقشات وحوارات أعضاء المجلس والحكومة موجودة فيها، بتغطية صحفية حرّة تماماً، دون رقابة!!

فاتني أن أقول لك، إن أدرت ظهرك دورة كاملة والتفت للطرف الثاني من الساحة إلى الغرب قليلاً، ستجد مبنى حلّ مكان مبنى بلدية دمشق، الذي من شرفته ألقى سكرتير المؤتمر وأحد مندوبي الجنوب – فلسطين، السيد محمّد عزّة دروزة، قرار المؤتمر السوري العام، المعروف بقرار الاستقلال، في 8 آذار 1920.

والآن حوّل نظرك قليلاً، نحو الضفة الجنوبيّة لبردى حيث ترى مبنى وزارة الداخليّة الذي كان السراي الحكومي الكبير، والذي فيه أقيم الاحتفال الكبير باستقلال سورية في 27 أيلول 1941، مع تولي السيد حسن الحكيم رئاسة الوزراء وتشكيله حكومة وطنيّة بمشاركة فايز الخوري وزيراً للخارجيّة، وعبد الغفار باشا الأطرش أحد قادة الثورة السورية وزيراً للدفاع، ومنير العبّاس (العلوي) وزيراً للأشغال العامة، حكومة أنهت أية محاولة لقيام دويلات طائفيّة في الجنوب أو الشمال.

أرأيت…؟

بمسافة زمنيّة لا تتجاوز العشرين دقيقة، وجدت كنزاً فريداً من الثقافة السياسيّة العالية، النظريّة «طبائع الاستبداد» والعملية «المؤتمر السوري العام: المجلس والحكومة»، مع صحافة حرّة ودون رقابة، إضافة لمثال «حكومة حسن الحكيم 1941»، التي أنتجت «سورية سياسيّة واحدة موحدة» في عهد الاستقلال الأول، بعيداً عن خريطة الدويلات وحسابات المذاهب والاتنيات والطوائف.

هذا المعنى الدمشقي – السوري، موجود قربك، إلى جوارك، تمر به ولا تنتبه إليه، ما بك؟ لماذا أنت تائه؟ لا تدري ماذا تفعل بعد سقوط القوقعة الثقيلة لنظامِ حكمٍ استبدَّ بك رغم «طبائع الاستبداد» الموجود بين يديك؟!

-9-

مُخيف الضياع، مخيفة المتاهة.

خائفٌ على دمشق ومعناها؟ حسناً، اترك ساحة المرجة (أذكّرك: والمرجة لِنا)، واتجه غرباً على حافة بردى، على يسارك سيتراصف سوق المهن اليدويّة والتكيّة السليمانيّة مع المتحف الحربي ومن ثم المتحف الوطني… تابع التقدم نحو مدينة معرض دمشق القديمة… تقدم: هنا كان المسرح الذي من على خشبته كانت فيروز تطل على دمشق، في دورة سنويّة لم يقطعها إلّا حكم ثلّة افترضوا أنفسهم من صبيان الثورة الثقافيّة الماوية… قطيعة، أدت بالأخوين رحباني إلى كتابة مسرحية «يعيش… يعيش» في رد على الانقلابات العسكريّة التي لا تكاد تُحصى والتي أنهكت التاريخ السياسي السوري وصحّرته.

لم تنشأ علاقة بين فنان ومدينة، كتلك التي بين فيروز ومعها الأخوين رحباني ودمشق. علاقة استثنائيّة لن يتمكن أي مؤرّخ أن يتجاوزها. دمشق تنتظر السنة لتدور دورتها كي تلتقي فيروز، إذاعة دمشق هي منزل فيروز، تكاد تكون ملكها، صباح دمشق فقط: شمس مشرقة وفيروز.

لماذا أتيتَ إلى هنا؟ الخوف… الخوف على دمشق ومعناها؟

إذاً، إليكَ هذا الدفاع العظيم، هذا الرادع للخوف، الحارس لدمشق ومعناها، افتح الرابط واستمع إلى (سائليني يا شآم)… استمع وتذكّر أن فيروز عندما أنشدتها هنا في حفلة المعرض السنويّة، في أوائل ستينيّات القرن العشرين، وعندما وصلت إلى مقطع:

ظمئ الشرق فيا شام اسكبي…

…………………………..

أمويّون فإن ضِقتِ بهم     ألحقوا الدنيا ببستان هشام

هنا، في هذه اللحظة، ارتفعت قبعات ضباط الجيش الحاضرين نحو الأعلى من شدة الشعور بالخيلاء والعزّ… من ثقتهم بأنّهم وصلوا مع فيروز إلى أقصى المعنى الدمشقي.

معنى أنَّ الأمويّة هي الاتساع نحو الأقصى، معنى أنَّ الأمويين ألحقوا الدنيا بدمشق، ولم يخنقوها بمذهب!!

(سائليني يا شآم: اضغط:  فيروز سائليني يا شآم)

افتح الرابط، لا تؤجّل، الأغنية – النشيد جزءٌ عضوي من هذا النص، لا تتجاوزه، استمع ثم تابع القراءة حتى ينتهي الخوف، يتراجع الشعور بالتيه، تصل إلى أقصى المعنى الدمشقي، لترفع قبعتك عالياً.

لكن لا تنسى أن ترفع قبعتك احتراماً وتقديراً لأولئك (الأمويين بالمعنى لا بالنسب: فيروز والأخوين رحباني وسعيد عقل، الذين استحضروا المعنى الأموي في أمسيات دمشقيّة خالدة).

لا عليكم أيّها الدمشقيون، الشاميّون، السوريّون، سوى رفع صوت فيروز مجدداً في دمشق، في حاراتها ومقاهيها، وشوارعها، ومكاتبها، ومتاجرها، ومعاملها، ومنازلها. فيروز كفيلة باستجلاب ذلك الصفاء الدمشقي الأيلولي مجدداً، كفيلة بحياء الياسمين عطراً، كفيلة بنسمات الربوة النقيّة، كفيلة بشفقٍ ذهبي من مطالع الشمس، بصباحٍ مشرق.

-10-

المصلّون في الجامع الأموي، يتلون صلاتهم وهم في حراسة رأسين: رأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى) الذي مقامه في قلب الجامع، ورأس الحسين الذي مقامه في مشهد الخليفة علي في الجهة الشماليّة الشرقية.

الأمويّة، هنا تأخذ معنى الاتساع الروحي، معنى فيض المحبّة التي تغذيه الزوايا الصوفيّة في أنحاء المسجد، المعنى الذي لا يُرى فيه «يزيد بن معاوية» إلّا في حوار مع الذهبي الفم، وإلّا بعينين دامعتين على ضحيّة الصراع المحتوم بفعل قانون السلطة وحكم التاريخ. فتكون الواقعة الحسينيّة تراجيديا وليست جريمة.

بل ستأخذ الأمويّة عمقاً استثنائيّاً وفريداً، من المعنى الذي يوفّره الجامع الأموي نفسه: مآذن شاهقة وشاهدة على اتساع غير محدود، وبناء متواشج مع كاتدرائيّة مسيحيّة، وعمق في الأساس يصل إلى الإله حدد الآرامي. وفي قلب الجامع رأس يوحنا المعمدان الشاهد المطلق على تلك الاستثنائيّة لهذا النسيج الحضاري الذي صاغته دمشق عبر تاريخها.

-11-

الخليفة الأموي عبد الملك مبن مروان، هو من أمر ببناء قبّة الصخرة في القدس (691) م، الصخرة التي منها أسرى النبي نحو السماء. القدس قِبلة أمويّة، كما فلسطين قبِلة سوريا على مرّ التاريخ.

-12-

مع التقدم المتسارع للخطر العباسي الزاحف من خراسان نحو مركز الإمبراطوريّة الأمويّة، في عهد الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمّد (744 – 750) م، عمد الخليفة إلى نقل العاصمة الأمويّة من دمشق إلى حرّان في الشمال.

ألهذا قال ابن عساكر: إنَّ الحائط الذي وضع في الأرض بعد الطوفان « كان أولاً في حرّان، ثم دمشق، ثم بابل»؟

حرّان، دمشق، بابل… ما هذا المثلث العجيب! الذي من زواياه وقلبه وحوافه، بدأت مسيرة التاريخ الإنساني.

ما هذا المثلث العجيب، الذي شكّل مرتسم الحوض الجيوسياسي للهلال الخصيب منذ الألف الثالث قبل الميلاد.

مثلثٌ لم يكن إلّا عين العالم الرائيّة… لكنها، العين التي يغشاها الرماد الآن…

ويحنا من خطر انطفاء النور؟

ويحنا، إذ يعود قايين حاملاً جثّة هابيل مجدداً، يطوف بها تائهاً في روابي دمشق الغربيّة… ولا من غراب جديد يرسله الله، بعد أن أرسله ولم يرتدع (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين. المائدة: 27 – 31).

لم يندم أبداً،

فكيف يبدأ؟

ومن أين يبدأ؟

والجثّة على أكتافه، وهو تائه، ضائع، يستجدي بداية أخرى على هذه الأرض!

-13-

قضى ابن عساكر جلّ حياته وهو يكتب «تاريخ دمشق»، فوضع 80 مجلّداً، بواقع 36244 صفحة، ولم يتم كتابة تاريخها.

كيف لي بـ 3317 كلمة أن أصل إلى معناها؟

ليس لي سوى النفّري لألوذ بعبارته: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».

دمشق: خلاصة سوريا الأخيرة.

دمشق: هي مِنصّة الرؤيا.

أمويّون فإن ضِقتِ بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام

ارفعوا صوت فيروز عالياً.

نشرت في موقع سيرجيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *