بعد سقوط حكم البعث في كل من العراق وسوريا، واندلاع حرب «طوفان الأقصى» وما رافقها من قتال مع المقاومة في لبنان، اعتبر القادة الصهاينة أن ما جرى سيؤدي إلى اندفاعة جديدة لمشروع إسرائيل الكبرى. وكرروا في مناسبات عدة القول إن الكيانات السياسية المحيطة بفلسطين باتت قابلة للتفكك أكثر من أي وقت مضى. لذلك بدأوا بطرح مشاريع الاستيطان مجدداً في غزة والاستيلاء على القسم المتبقي من فلسطين. أمّا في المناطق المحتلة حديثاً في جنوب لبنان وسوريا، فهناك أيضاً دعوات إلى إبقاء السيطرة التامة على المناطق الاستراتيجية إضافة إلى الاستيطان طبعاً.
ما نواجهه بعد نجاح «المحافظين الجدد» في إسقاط أنظمة عربية لا تأتمر بتوجيهاتهم، وترحيب نتنياهو الحار بذلك، هو في الواقع عملية تدمير للنسيج الاجتماعي في الكيانات السياسية التي أقامها الغرب حول فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى.
في عملية إسقاط نظامي «البعث» في العراق والشام، كان أداء الغرب متشابهاً. تم التركيز على إذكاء النعرات الطائفية والمذهبية وتشجيع التوجهات التقسيمية ودعمها. وهذا بالضبط ما كان يطمح إليه القادة الصهاينة الذين أعلنوا أنّ جلّ مناهم تقسيم بلاد الشام والعراق على أساس مذهبي، طائفي وإثني. فالاهتمام الإسرائيلي بإقامة كيانات كردية مستقلة في العراق والشام فضحته مجموعة من الوقائع التي تؤكد مشاركة عسكريين إسرائيليين في تدريب أكراد العراق وتسليحهم منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. وجرى الأمر ذاته لاحقاً في دعم انفصال أكراد سوريا. ونلاحظ أن ما نُفذ في العراق بالنسبة إلى الأكراد، وبحماية أميركية ودعم صهيوني، نفذ أيضاً في سوريا.
لقد أسقطت الأنظمة التي وضعت على لائحة ما سمي بـ«الدول المارقة» بحجج كاذبة وباستغلال للأوضاع الداخلية في تلك الأنظمة، التي بدلاً من أن تقوم خلال مدة حكمها الطويلة بعملية تثقيفية نهضوية شاملة لتغيير الواقع المذهبي والطائفي الموروث الذي تتميز به بلاد الشام والعراق، وتنطلق في تجربة وحدوية كانت ستغير حتماً وجه المنطقة… حدث العكس تماماً. وهكذا ضاع أمل الوحدة سواء داخل القطر الواحد أو بين القطرين. ومن سخريات القدر أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) رفع شعار توحيد البلدين تحت رايته بدلاً من أن يكون الحزب الوحدوي هو المبادر.
دخل جناحا «البعث» في بغداد والشام في صراع مرير، هدرت فيه طاقات، وسقط نتيجته ضحايا، وازداد الشرخ الطائفي في الكيانين. وللأسف توحّد النظامان فقط في إقامة أجهزة بوليسية تقمع الناس لمجرد معارضتهم أو نقدهم سياسات الحكم. كان نقد الحاكم يقود إلى التهلكة، حتى أن السلطة العراقية شرّعت قانوناً يقضي بإعدام كل من يشتم صدام. وترافق القمع مع تبديد الثروات الوطنية في مغامرات عقيمة، وانعدمت المحاسبة، وانتشر الفساد الذي هو صنو للخيانة. واستغل الغرب تلك الأوضاع، ونجح نجاحاً كبيراً ليس في إسقاط النظامين فقط، بل أيضاً في تشظي المجتمعين، والنتيجة كانت هدية مجانية لمصلحة المشروع الصهيوني. تعرّض العراق لحصار خانق استمر مدة ثلاثة عشر عاماً بعد غزوه الكويت. وعندما فشل الحصار الظالم الذي سقط بسببه مئات الآلاف من الضحايا، كان الحل الأخير المتبقي أمام التحالف الغربي هو الغزو والاحتلال. وما إن وطأت أقدام المحتلين أرض العراق حتى توالت الكوارث، تم تسريح الجيش العراقي (وهذا ما نُفذ لاحقاً في سوريا)، ووضع حاكم العراق بول بريمر دستوراً جديداً كان البنية الأساسية لتدمير النسيج المجتمعي العراقي بتسعير الصراع السني – الشيعي. وهكذا دخل العراق في حرب داخلية سياسية وعسكرية بين أبنائه، وتم فصل الشمال ذي الأكثرية الكردية. لقد كان الصراع العراقي – العراقي الداخلي جل ما يتمناه المحتل. لكن حسابات المحتلين لم تكن كما توقعوا، فقد انطلقت مقاومة عراقية للوجود الأجنبي، ما دفع المحتلين إلى الاعتماد على التكفيريين لمواصلة الحرب التدميرية. وبرزت ظاهرة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) التي انتشرت بقوة في العراق والشام بدعم غربي.
الفرص العدة للتغيير سابقاً ضاعت في خضم الصراعات الداخلية والاستئثار بالسلطة و«جنون الخلود» الذي سيطر على عقول القادة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم طليعة التغيير والوحدة والحرية، لكن في الواقع كانوا عكس ذلك
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا استُعملت التنظيمات التكفيرية كأدوات في حروب أميركا؟ الجواب يأتينا من نتائج حربي فييتنام وأفغانستان. وبالعودة إلى حرب فييتنام يتبيّن أنه بعد الخسائر التي لحقت بالأميركيين، لجأوا إلى سياسة جديدة في حروبهم اللاحقة وهي الاستعانة بالتنظيمات الإسلامية «الجهادية» كما حدث في حرب أفغانستان الأولى بعد تولي الشيوعيين الحكم في نيسان سنة 1978. لقد كُتب الكثير عن تلك الحرب، وكيف أن الأميركيين بالاتفاق مع حاكم باكستان ضياء الحق أطلقوا عملية سمّيت «الإعصار» تم بموجبها تجنيد وتسليح مئات الآلاف من «المجاهدين» الأفغان والعرب لقتال الحكم الشيوعي «الكافر» في كابول. وبعد هزيمة الشيوعيين وانسحاب السوفيات، كشف النقاب عن أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت قد باشرت فور إسقاط الحكم الملكي في كابول واستلام الشيوعيين الحكم، بتقديم الدعم لـ«المجاهدين» حتى قبل دخول أي جندي سوفياتي أفغانستان. وكانت النتيجة التي توصل إليها الأميركيون من تلك الحرب، أنهم قاتلوا أعداءهم وربحوا دون أن يسقط لهم جندي واحد. ذلك النجاح قادهم إلى الاعتماد مستقبلاً على قوى «جهادية» لشنّ حروبهم وتنفيذ مخططاتهم. وهذا ما حدث بالضبط في العراق وسوريا.
ما كانت مخططات المحافظين الجدد في أميركا لتحظى بالنجاح لو أن قادة «البعث» في بغداد ودمشق اعتمدوا خلال مدة حكمهم الطويلة نهجاً توحيدياً للشعب في الكيانين. وعلى النقيض من ذلك، فقد أدّى التنافس الشخصي على السلطة بين قيادات «البعث» إلى مصائب وكوارث. كان القائد في كل كيان هو الملهم، لا مجال للنقاش أو الاعتراض على سياساته، من يعترض يكون مصيره السجن أو التصفية الجسدية، حتى لو كان من قيادة الحزب. وهذا ما شرحه بالتفصيل منيف الرزاز في كتابه «التجربة المرة». ونتيجة لذلك كانت هناك استحالة في توحيد الكيانين العراقي والسوري من قبل الحزب الوحدوي المنطلقات. لقد كانت ولا تزال مشاريع الوحدة العراقية – السورية بعد الحرب العالمية الأولى من المحرمات عربياً ودولياً وحتماً صهيونياً. لقد سبق أن جرت محاولات من قبل نوري السعيد وشكري القوتلي وتم إجهاضها عربياً. وسواء كان الحاكم في العراق ملكياً أو بعثياً فالوحدة ممنوعة.
وكما حدث في العراق حدث في سوريا منذ عام 2011 حيث كانت الأرضية جاهزة. تم تجنيد مئات الآلاف من «المجاهدين» الأجانب والسوريين، سلحوا ودربوا وتم تمويلهم بمليارات الدولارات كما اعترف بذلك رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم آل ثاني في حديث متلفز. المحاولة الأولى عام 2011 لإسقاط الحكم فشلت بسبب قتال الجيش السوري ودعم الحلفاء. وكان المخطط البديل لإسقاط دمشق حصار سوريا عبر ما سمي بـ«قانون قيصر» والاستيلاء على النفط السوري، ودعم كيان كردي متحالف علناً مع الصهاينة، واحتلال تركي وأميركي. تم خنق السوريين تدريجياً، وعندما تبدّلت الظروف السياسية والأولويات لحلفاء دمشق، صدر الأمر بالعودة إلى المشروع الأساسي وسقطت دمشق، وانتهت مرحلة حكم «البعث» في الشام كما انتهت في العراق.
الهجمة الحالية على بلادنا أدخلتنا في مرحلة جديدة مختلفة تماماً عن السابق. ومن المتوقع، كما يبدو حتى الآن، أن تؤدي نتائج هذه الهجمة إلى مزيد من التقاتل المذهبي والإثني وانفجار مجتمعاتنا وإحكام القبضة الأميركية – الإسرائيلية. وهذه النتيجة الكارثية التي نحصدها اليوم جميعاً، سواء الذين قاتلوا وعارضوا «البعث» في العراق والشام أو من كانوا من أنصاره. فالفرص العدة للتغيير سابقاً ضاعت في خضم الصراعات الداخلية والاستئثار بالسلطة و«جنون الخلود» الذي سيطر على عقول القادة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم طليعة التغيير والوحدة والحرية، لكن في الواقع كانوا عكس ذلك.
وعلى النقيض من هذا الواقع المؤلم والمحبط، نرى يومياً ما يصح اعتباره حتماً معجزات يسطرها أبطال شعبنا في فلسطين وبالتحديد في غزة، وكذلك المقاومون في لبنان. آلة الحرب الأطلسية والدعم المتواصل في المجالات كافة للعدو الصهيوني منذ «طوفان الأقصى» حتى اليوم عجزت عن إخضاع المقاومين المحاصرين براً وبحراً وجواً. والمقاومة الحالية ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من المواجهات بدأت منذ أن وطأت أول قافلة من المستوطنين الصهاينة في جنوب يافا عام 1881. واستمر الصراع بأشكال وقيادات مختلفة حتى اليوم. كل هذا دليل على أن لدى شعبنا قدرات هائلة وإيماناً لا يلين بحقه في العيش حراً على أرضه رغم كل المؤامرات والإخفاقات. إن القوة النفسية والروحية في شعبنا، والتي صمدت في وجه حروب الإبادة والتهجير، هي الأمل والدليل الساطع على أنه في نهاية هذا الصراع لا مفر من النجاح.
نشرت في جريدة الاخبار اللبنانية