ـ الدولة الديمقراطية القومية والعلمنة
أن الانتقال من «الدولة الدينية» إلى «الدولة الديمقراطية القومية»، جاء بعد سلسلة طويلة من الانتفاضات الفكرية والثورات الدموية، كانت ارادة الشعب فيها هي اللاعب الأكبر، خصوصا في النزاع الذي وقع أولا بين الملكية والإقطاعيين. إذ وقف الشعب إلى جانب الملكية التي تمكنت من القضاء على الإقطاعيين، إلا أنها، عادت فخذلت الشعب، إذ استأثرت بالسلطة وتصالحت مع الكنيسة، التي اعترفت للملوك بحقهم الالهي في السلطة، فاستمد الملوك حقوقهم من الله فهم على عروشهم بارادته، حتى قال لويس الرابع عشر انا الدولة والدولة انا، وكانت الثورة الفرنسية التي سار بعدها الشعب نحو الهدف الذي يبرر وجوده وهو اقرار ان السيادة مستمدة من الشعب وان الشعب لم يوجد للدولة ـ السلطة، بل الدولة للشعب. فكانت الدولة الديمقراطية القومية التي لا تقوم على معتقدات خارجية أو ارادة وهمية، بل على ارادة عامة ( ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة ) الدولة، اذا، أصبحت تمثل الارادة العامة.
تمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدولة السابقة.
الدولة الديمقراطية لم تمثل التاريخ الماضي ولا التقاليد العتيقة ولا مشيئة الله، ولا المجد الغابر، بل تمثل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة الممثلة في الارادة العامة، في الاجماع الفاعل، لا في الاجماع المطاوع(1) تحت عامل القومية الجديد الظاهر في تولد روح الجماعة والرأي العام، تغير معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدة إلى سيادة المتحد وحكمه نفسه. والوسيلة التي مكنت من تحقيق هذا المبدأ الجديد هي التمثيل السياسي ( المدني لا الديني ) الذي مكن من الفصل بين السلطة الاشتراعية والأخرى التنفيذية وترجح كفة السلطة التشريعية لأنها تمثل ارادة الشعب تجاه الملك القابض على مقاليد الأمور، وتجاه السلطة التنفيذية على وسائل القوة(2)
لم تكن الطريق إلى هذا الهدف ( التمثيل السياسي) سهلة بسيطة، بل كانت شاقة وصعبة اذا تشبث الملوك بالحق الالهي والتفرد بالسلطة، فانتقل النزاع من كونه نزاعا في الدولة بين الملك والنبلاء إلى كونه نزاعا بين الملك والقوة الجديدة ( الشعب) الذي أيدته سابقا في صراعه مع النبلاء. ورويدا أخذت القومية المستيقظة تنتزع حقوقها من الملكية حتى قضت عليها، أو حطتها إلى مجرد ملكية دستورية مقيدة، وصارت السيادة الحقيقة الفعلية بيد الشعوب، وأصبحت الدولة تمثيلية.
وأبرز، ما ميز الدولة القومية الجديدة عن الدولة القومية القديمة، بأنها لم تعد تجبل الأقوام جبلا في مساحة الأرض التي تبسط ظلها عليها، لأنها أصبحت تصطدم بإرادة متحدها هي، قوميتها، وارادة القوميات الأخرى، فكل دولة كانت تتخطى حدود قوميتها، كانت تعتبر دولة استعمارية. وفي مقارنة بسيطة لواقع الدولة وإرادتها قبل نشؤ القومية وبعدها، نجد أن الدولة، قبل نشؤ القومية، كانت ارادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله. أما بعد نشؤ القومية فقد أصبحت الدولة النظام والهيأة الممثلين لارادة الأمةـ الشعب.
وفي الخلاصة، نجد أنه مع نمو الدولة، ونمو أعضائها في الفهم الاجتماعي، وفي الشعور بحاجاتهم الخاصة، وامكانية الحصول عليها بواسطة النظام السياسي، تأخذ قوة الدولة في الاستقرار شيئا فشيئا على خدمتها هذا الهدف. فالدولة وحكومتها ليستا مظهرين اجتماعيين نهائيين، بل تقومان على ما هو أعمق منهما، على حماية المتحد وإرادته.(1)
11 ـ العلمانية عند مفكري الغرب
بدأت ملامح العلمانية تظهر في كتابات مفكري الغرب، منذ مطلع القرن الرابع عشر، ونلقي، في ما يأتي، الضوء على أبرز هؤلاء المفكرين:
- مكيافيلي ( 1479ـ 1527)، ونظريته: الغاية تبرر الوسيلة، وهو صاحب فكرة قيام علم للسياسة مستقل عن الأخلاق الفردية عموما، والأخلاق الدينية خصوصا، وليس للدولة سوى مبدأ القوة.
ووصف مكيافيلي الحكومة الشعبية بأنها حكومة سعيدة، فيقول: «ولا ريب أنها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية التي تخرج رجلا حكيما، يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها، والتي لا يضطرون إلى تقويمها» وهكذا تكون المقارنة التحليلية قد انتهت بمكيافيلي إلى الدولة المثالية أو المنتظم السياسي النموذجي، الذي تطلع اليه أفلاطون في كتاب «القوانين»، ودعا اليه بوليبوس وشيشرون. فمهد بذلك السبيل إلى التصنيف أو الفصل الثلاثي للسلطة الذي دعا اليه منتسكيو. ونستطيع أن نلاحظ أن هذا النموذج كان هدف آباء جمهورية الولايات المتحدة، الذين وضعوا دستور بلادهم وعيونهم شاخصة نحو أثينا وروما والمدن في الجمهورية الايطالية..«(1)
- نظرية العقد الاجتماعي عند هوبز، لوك وروسو.(2) ويلتقي الثلاثة في مبدأ المجتمع والدولة، الذي حسبوه ماثلا في الفرد.. مع اختلافهم في وصف هذه الحالة. فسلطة الحاكم كما يرسمها هوبز في الدولة العلمانية سلطة لا تتجزأ ولا تنتقل. والمؤسسات الدينية ممنوعة، وفقا للعقد الاجتماعي، من التدخل في الحكم. والكلمة الأخيرة في شؤون العقيدة الدينية، هي للحاكم وحده. فالدولة عند هوبز دولة علمانية، لجهة أنها تمنع رجال الدين من التدخل في الشؤون السياسية، فهي دولة دنيوية تقوم على مبدأ الانسان وليس مبدأ الله ، بكلمة أخرى، هي دولة الأرض وليست دولة السماء! وفي مثل هذه الدولة تكون طاعة البشر (المواطنين) للبشر (الحكام)، وليست طاعة الله، والطاعة ليست بلا طائل، بل غاية الطاعة هي الحماية. أما لوك، فقال بدولة علمانية ترتكز على معان ثلاثة:
ليست دولة رجال الدين
هي دولة الدنيا
دولة مؤسساتها قائمة على العلوم
إلا أن دولة لوك، هي دولة ليبرالية رأسمالية تقوم على توظيف الحكم لخدمة الملكية الخاصة، وأبرز مثل على ذلك دولة الولايات المتحدة الأميركية، واعتبر روسو: أن القابضين على السلطة التنفيذية، ليسوا أسياد الشعب بل خدامه، فالشعب يقدر أن يعينهم وأن يقيلهم متى يشاء.
أضف اليه، أن روسو قد فرق بين الحكومة والسيادة، فلا عقد عنده بين الشعب والحكومة(1).
(1) –انطون سعاده: نشؤ الأمم، ص 138ـ 131
(2) ـ انطون سعاده: نشؤ الأمم، ص 139
(1) – انطون سعاده، نشؤ الأمم،ص 140
(1) – حسن صعب: علم السياسة، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1 ، 1966، ص322.
(2) – هوبز (1588ـ 1679)
ـ لوك (1632ـ 1704)
ـ روسو(1712ـ 1778)
(1) ـ حيدر اسماعيل: فكر، العدد 86، ص 18ـ 20