انقضت ثلاثة عقود ونيف على توقيع اتفاق أوسلو والذي تم الاحتفال به في حينه بشكل لافت وسط حضور فلسطيني وعربي ودولي في حديقة البيت الأبيض. الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أبو الوطنية الفلسطينية وباعثها بشكل منفصل عن الهوية القومية الجامعة تحت شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل، كان قد وصف الاتفاق بانه انتصار واطلق عليه اسم سلام الشجعان باعتبار أن الشجاع الأخر هو إسحاق رابين رئيس وزراء الاحتلال في حينه، وقال أن الاتفاق هو مرحله وليس إلا محطه انتظار قصيره لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وانها سوف تمثل نموذج باهرا من التقدم والحرية والديمقراطية في جانبها السياسي وأعجوبة تكنولوجيه في جانبها العلمي وذات اقتصاد متين يجعل من الفلسطيني قادرا على العيش برغد ورفاه وبما يشابه أو يقارب ما هي عليه حال المواطن في سنغافورة أو هونغ كونغ أو دبي لاحقا.
لم يتم نشر نصوص الاتفاق سريعا واصبح مجالا للتقولات والاجتهادات وتداول الشعب الفلسطيني اكثر من نص ورواية منها ما هو حقيقي أو قريب من الحقيقة ومنها ما كانت تسربه القيادة في حينها والذي يتحدث عن الاتفاق باعتباره إنجازاً تاريخياً وانتصاراً للقيادة الحكيمة وانه سيصل بنا للتحرير وقيام الدولة المستقلة ذات الاستقلال الناجز وان هذه فرصه الشعب الفلسطيني ليثبت حضاريته وتوقه للحرية والديمقراطية والعدالة.
انطلقت أبواق الإعلام الموالي ومعها أنصاف المثقفين الماجورين وجموع الغوغاء تهتف بالنصر وطول العمر للقيادة الحكيمة على هذا الانتصار الذي يحسب لها ويؤكد على ذكائها وقدرتها الاستثنائية وقام بعض الشبان بتسلق المركبات العسكريه لجيش الاحتلال ليضعوا عليها أغصان الزيتون لا بل وحاولوا تقبيل الجنود الذين رفضوا غالبا ذلك، فالسلام قد حل وقد اخذ كل من(الإسرائيلي) والفلسطيني حصته ورضي بها.
لكن سرعان ما انتشر النص الرسمي للاتفاق ليتبين أنه ليس أكثر من حكم ذاتي محدود فلم ترد كلمة دولة فلسطينية ولا مرة واحدة وإنما تحدث النص عن سلطة فلسطينية تقوم بموجب هذا الاتفاق وهي ذات وظيفتين أساسيتين كما ورد بالنص وهي إدارة السكان والحفاظ على أمن الاحتلال فيما صدر عن (الإسرائيليين) أقوال منها أننا كنا نفاوض أنفسنا وأن المفاوض الفلسطيني لم يكن يعرف واقع فلسطين أو حتى جغرافيتها عند الاتفاق على مناطق الف وباء وجيم، و هو ما عاد و كتب في مذكرات من عاصر أو شارك أو عايش تلك الفترة من الجانبين.
سريعاً أثبتت الوقائع على الأرض حقيقه الاتفاق والنصر المزعوم فكانت النتيجة أن تغول الاستيطان والتهم مزيدا من الأرض الفلسطينية وارتفع عدد المستوطنين والأراضي المسيطرة بنسبه تقدرها مركز الإحصاء ما بين 700 إلى 800% عما كانت عليه قبل الاتفاق وتورطت السلطة بالتنسيق الأمني ضد المقاومة ووصلت إلى حد بعيد يصل إلى اعتباره أمراً مقدساً فيما تم الحاق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد (الإسرائيلي) ضمن شراكات ومشاريع مشتركه بالطبع لصالح الطرف القوي لا الضعيف.
كان طبيعة الاتفاق في جوهرها تهدف إلى تمزيق الشعب الفلسطيني ومنع وحدته إلا على قاعدة الاستسلام للمشروع الصهيوني مما أدى إلى حاله الانقسام السياسي والجغرافي ما بين الضفة الغربية وغزة وما بين فلسطينيين داخل وفلسطينيين الخارج الذين لم يشملهم اتفاق اصله ووصل إلى الحال إلى ما نحن عليه اليوم.
و في السياق نتذكر مسألتين يمكن اخذ العبرة مهن:
الأولى: أن ما ثبت أن الغرض الرئيسي لتوقيع الاتفاق و الارتجال و الاستعجال في إبرامه كان يهدف إلى الحفاظ على بقاء القيادة المتنفذة التي قايضت بقائها السياسي بالمصالح العليا للامة وللشعب الفلسطيني و بما لا يتفق مع الآراء حتى المعتدلة (المهادنة)، فلهدف ليس الوطن و مصالحة و إنما من يقود الوطن الأمر الذي يعيدنا إلى البيانات الرسمية العربية التي صدرت اثر الهزيمة المجلجلة التي منينا بها عام 1967 و التي اعتبرت أن (إسرائيل) لم تنتصر بالحرب حتى لو احتلت الضفة الغربية و الجولان و شبه جزيرة سيناء، إذ أن هدفها كان إسقاط الأنظمة الثورية (الثورجية)، و بما أن الأنظمة لم تسقط، فهذا يكفي.
الثانية: أن مسار التفاوض كان قد انطلق فبل توقيع اتفاق أوسلو بقرابة السنتين و ذلك في مؤتمر مدريد و في أعقاب حرب الخليج الثانية، و كان الرأي أن يذهب وفد مشترك للتفاوض مع (إسرائيل)، لكن بعض قياداتنا رات غير ذلك و شجعها على الأمر الأمريكان بان تذهب وفود منفصلة لتفاوض بشكل منفصل، و كانت أوسلو و كارثتها من نتائج فصل المسار القومي إلى مسارات صغيرة منفصلة عن بعضها البعض.
دروس من تاريخ ليس ببعيد.