ليست المرة الأولى التي يحاول الناشطون المؤيدون والمناصرون لغزة والفلسطينيين حول العالم كسر الحصار البحري على القطاع. فالسفينة «مادلين» التي كانت تحمل كميات محدودة، لكن رمزية من الإمدادات الطبية والغذائية، هدفت إلى التحدي المباشر للحصار «الإسرائيلي» المفروض بحراً على غزة، رغم أن فرص نجاح مثل هذه الجهود ضئيلة نظراً للتجارب السابقة في هذا المجال وإفشالها بالقوة من قبل العدو الصهيوني.
منذ حوالي 18 عاماً ومحاولات كسر الحصار على غزة تتوالى بأشكال متنوعة، إلا أن أسلوب ونمط التعامل معها من جانب العدو الصهيوني بقي ثابتاً وتمثل باعتراض السفن قبل وصولها، ومصادرتها أو تفتيشها وأحياناً اعتقال الناشطين على متنها دون السماح بالوصول لغزة. بيد أن هذه الجهود، رغم منعها ميدانياً، ساهمت في فضح الحصار وإحراج دولة العدو وإبقاء المسألة الفلسطينية حيّة دولياً.
السفينة «مادلين» المنطلقة من جزيرة صقلية الإيطالية والمتوجهة إلى شواطئ القطاع في مهمة جريئة لكسر الحصار المفروض عليه هي آخر هذه المحاولات التي لم تتوان القوات العدوة «الاسرائيلية» عن مهاجمتها أثناء محاولتها الاقتراب من غزة وتوقيف الناشطين على متنها.
في حزيران/ يونيو 2025، أطلق تحالف أسطول الحرية اسم «مادلين» على إحدى سفنه تكريماً لها كأول صيادة فلسـطـينية، ورمزاً للتحدي والإصرار. وتعود تسمية السفينة تيمناً بفتاة فلسطـينية من غزة تُدعى مادلين كُلّاب التجأت للصيد منذ صغرها حين كانت ترافق والدها إلى صيد السمك. وحين أصيب بمرض خطير منعه من العمل تحملت مسؤولية القارب لتدعم عائلتها في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية والحصار. لم تستسلم يوماً، بل استمرت في مساندة أهلها من الصيد. بعد اندلاع الحرب على القطاع في أكتوبر 2023، فقدت مادلين والدها ومصدر رزقها، مما زاد من تحدياتها وإصرارها وثباتها.
«اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة» أشرفت على تنظيم الرحلة ضمن إطار «تحالف أسطول الحرية»، وهي حركة دولية تأسست عام 2010 بهدف كسر الحصار «الإسرائيلي» المفروض على القطاع، وقد أطلقت حتى الآن 36 سفينة ضمن هذا المسعى. النشطاء على متن «مادلين» واصلوا الإبحار رغم التهديدات، حاملين رسالة إلى المحاصرين في قطاع غزة: «أنتم لستم وحدكم».
سفينة «مادلين» التي أبحرت في الأول من يونيو/حزيران 2025، في رحلة تمتد لمسافة ألفي كيلومتر عبر البحر الأبيض المتوسط، حملت على متنها شحنة رمزية من المساعدات و12 ناشطاً من دول متعددة دولياً، من بينهم الناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ، إلى جانب صحافيين ونشطاء حقوقيين وسياسيين مثل النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي ريما حسن.
وقد اقتحمتها قوات العدو في 9 يونيو/ حزيران وذلك أثناء وجودها في المياه الدولية، بالقرب من شواطئ غزة. وكان سبق اقتحامها، تعرضها لتشويش في الاتصالات. وقام النشطاء على متنها بتوثيق اللحظات الأخيرة قبل انقطاع الاتصال، حين اعتقلتهم قوات العدو وأجبرتهم على إلقاء هواتفهم المحمولة في البحر.
كان سبق سفينة «مادلين» محاولة سفينة أخرى تابعة لأسطول الحرية تحمل اسم «الضمير» في مطلع مايو/ أيار 2025 إذ تمت مهاجمتها بواسطة طائرتي درون مجهولتين في عرض البحر المتوسط قرب مالطا، مما أعاق إبحارها. وقد اعتُبر استهداف سفينة مدنية في المياه الدولية تصعيداً خطيراً، وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
ان تاريخ حصار غزة والتي تعود بعيدا عن عملية 7 أكتوبر عام 2023 ، شهدت خطوات عديدة لسفن تحاول كسر الحصار، يعود الاختراق الناجح الأول الى أغسطس/ آب 2008 عبر حركة «غزة الحرة»، حيث وصلت سفينتا «الحرية» و«غزة الحرة» إلى ميناء غزة، حاملتين متضامنين دوليين ومساعدات رمزية. وتكررت الرحلات في خريف العام نفسه، أبرزها سفينة «الكرامة»، لكن دولة العدو سرعان ما شدّدت الحصار وبدأت باعتراض السفن.
إلا أن الاعتداء الصهيوني الأبرز جرى في مايو/ أيار 2010 مع «أسطول الحرية» المؤلف من ستّ سفن، أبرزها «مافي مرمرة» التركية حين اعترضت بحرية العدو الأسطول في المياه الدولية، وأنزلت قوات كوماندوس إلى السفينة، ما أدى إلى مقتل عشرة متضامنين وإصابة العشرات. ووفق تقرير أممي فإن بعض القتلى أُعدموا من مسافة قريبة.
وفي إطار المحاولات الهادفة إلى كسر الحصار عام 2010 تم تنظيم رحلة سفينة «مريم» اللبنانية إلى غزة وكانت الناشطة اللبنانية الراحلة سمر الحاج وجهاً بارزاً ضمن القائمين على هذه المبادرة.
بين 2011 و2018، أبحرت عدة سفن وقوارب، منها «قارب النساء»، لكن البحرية «الإسرائيلية» اعترضتها واحتجزت النشطاء مؤقتاً ثم رحّلتهم.
السؤال المطروح هو هل هناك مشروعية لاعتراض السفن المدنية المتجهة إلى غزة في المياه البحرية؟ وقبل ذلك هل أن فرض الحصار البحري والبري على غزة مشروع وقانوني؟ القانون الدولي الإنساني لا يجيز فرض الحصار إلا بشروط صارمة، وعلى رأسها ألا يُستخدم لمعاقبة السكان المدنيين أو حرمانهم من احتياجاتهم الأساسية. والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظره صراحة باعتباره عقاباً جماعياً. وبحسب بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة عام 2010، فإن حصار غزة يشكل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي.
بالنسبة للقانون البحري، لا يحق لأي دولة – خارج تفويض من مجلس الأمن – فرض حصار على إقليم آخر، لا سيما إذا كان يستهدف مناطق مدنية. أما استهداف السفن فإن اعتراض «إسرائيل» للسفن في البحار، يتجاوز القواعد المعمول بها دولياً. فوفق «دليل سان ريمو» و«دليل نيوب ورت»، لا يجوز استخدام القوة ضد سفن مدنية إلا بعد إنذارها ورفضها الواضح للتفتيش. من هنا فإن الهجمات «الإسرائيلية»، التي غالباً ما تتم دون سابق إنذار، تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون البحري الدولي.
ويصف بعض الحقوقيين هذه الممارسات بأنها قرصنة بحرية برعاية دولة، خصوصاً حين تُرتكب في المياه الدولية ضد سفن إغاثة. فقوات الاحتلال «الإسرائيلي» اعترضت «مادلين» في المياه الدولية، وسيطرت عليها واقتادتها إلى ميناء أسدود، وتم اعتقال النشطاء على متنها. إثر ذلك عمت المسيرات والتظاهرات الضخمة عواصم العالم الغربي احتجاجاً على توقيف هؤلاء الناشطين. وقالت الناشطة السويدية غريتا تونبرغ بعد إطلاقها أن «اختطافنا جريمة حرب جديدة تضاف إلى سجل «اسرائيل»، متهمة دولة العدو بارتكاب انتهاكات للقانون الدولي وجرائم حرب.