لم يحصل في تاريخ الصراع العربي الصهيوني أن وقَّعت اسرائيل اللقيطة اتفاقًا لوقف إطلاق النار، وهي منتصرة، أو في وضع ميداني يُدنيها إلى النصر. بهذه الخلفية من الغرور والغطرسة، بدأت اسرائيل عدوانها البري ضد لبنان الشقيق، في أيلول المنصرم. ولقد بلغ الغرور بالعدو حد تزامن عدوانه مع نشر اعلانات للراغبين بالإقامة الدائمة في مناطق جنوب لبنان، والإطناب في وصف طبيعتها الخلابة وإطلالتها على البحر. ولا بد أن الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة، متمثلة بتفجيرات البيجر والاغتيالات، قد شحنت غرور العدو بمزيد من الغطرسة جعتله يتوهم أن وصوله إلى نهر الليطاني مؤكد، بل وسيكون أقرب إلى نزهة. واستخفت العنجهية مجرم الحرب نتنياهو وأركان الحكومة الفاشية في تل الربيع المحتلة، وحلقت بهم في ذرى الأوهام. فأخذوا يتبارون في إعلان أهداف عدوانهم، وفي مَقْدَمِهَا نزع سلاح حزب الله وإنهاء وجود المقاومة واستباحة لبنان وإملاء شروط الكيان عليه.
لكن خيبة أمل العدو كانت بحجم إخفاقه في تحقيق أيٍّ من أهدافه، حيث تحطم غروره وتشظَّت غطرسته في جنوب لبنان للمرة الثانية بعد تموز 2006. الجيش، الذي وُصف ذات زمن بأنه لا يُقهر بسبب ترهل جيوش الأنظمة العربية، لم يستطع التقدم في جنوب لبنان أكثر من ثلاث كيلومترات وأخفق في بسط سيطرته على أي أرض دخلها. هناك اصطدم برجال المقاومة الأشداء، المؤمنين بعدالة قضايا أمتهم وبحقهم المشروع في الدفاع عن وطنهم لبنان وعن فلسطين. بشهادة إعلام العدو وبعض قادته المتقاعدين خاصة، فقد تكبد خسائر كبيرة في جنوب لبنان ليس بمستطاعه تحمل ارتداداتها عليه وتداعياتها في حال استمرار العدوان. لجأ العدو كعادته، وفي دليل على جبنه وخسته عندما يفشل في المواجهات البرية، إلى الإنتقام بقصف المدنيين العُزَّل والمنازل والبنى التحيتة عن بُعد بالطائرات الأميركية. لكن رد الأشقاء في لبنان كان التلاحم بين الشعب والمقاومة والجيش. هنا، بدأ العدو يفكر بجد، ولم يكن أمامه سوى اللجوء إلى راعيه وحاميه الأميركي لإخراجه من مأزق دفعه إليه غروره وزجَّته فيه عدوانيته.
تقول صحيفة هآرتس العبرية، في تقرير إخباري تُرجم يوم 26 تشرين الثاني الفارط، وسنضع ما نَقْبِس منه بين أهِلَّة: «اكتشفت الحكومة أنه من غير الممكن القضاء على حزب الله بالقوة وإنهاء الحرب، ولذلك توجهت نحو أفق التسوية السياسية بوساطة الولايات المتحدة». ومن التقرير ذاته، نقبس أيضًا: «لم نهزم أحدًا. اقتصادنا ينهار. شبابنا يهاجرون». «لم يتحقق أيٌّ من أهداف الحرب». «الحصانة الاجتماعية في وضعٍ من التفكك وعلى شفير حرب أهلية». «الجنود النظاميون يأخذون تقارير طبية بسبب عدم قدرتهم النفسية والجسدية على الاستمرار في القتال». «40% من جنود الاحتياط لم يستجيبوا لدعوة الالتحاق بالخدمة العسكرية».
وتزيد الصحيفة العبرية ذاتها في تأكيد المؤكد، كما شاهد العالم كله وتابع، أن المقاومة اللبنانية لم تتوقف عن قصف أعماق الكيان وتجمعاته في فلسطين المحتلة حتى آخر لحظة قبيل إعلان وقف إطلاق النار. ولن تبرح ذاكرة تجمعات العدو لزمن طويل لجوء أربعة ملايين منهم إلى الملاجئ، يوم 24 تشرين الثاني الماضي، إثر إطلاق 360 صاروخًا من لبنان شملت مواقع كثيرة للعدو في معظم مناطق فلسطين المحتلة، وأخفقت دفاعاته الجوية في التعامل مع أكثرها. وقد اعترف مجرم الحرب نتنياهو في كلمته بمناسبة قبول الكيان لوقف إطلاق النار، أن من الأسباب «التقاط الأنفاس وإعادة التسليح». فهل لكلام من هذا النوع، على لسان مجرم حرب متعطش للقتل وسفك الدم، معنىً آخر سوى الإقرار بالعجز؟
لن ينسى التاريخ للمقاومة العربية في لبنان وفي فلسطين ولجبهات الإسناد، أنها واجهت العدو ببسالة في ظروف قاسية وصعبة يتصدَّرُها الدعم الأميركي والغرب أطلسي المفتوح للعدو يُضاف إليه طعنات سكاكين بعض «الأشقاء» في الظهر. وعلى الرغم من ذلك، فقد أثبتت المقاومة وأكدت بأفعالها البطولية على الأرض أن هزيمة اسرائيل ممكنة، بل وممكنة جدًّا.
وأكدت المقاومة أن الكيان الصهيوني لا يمكن التعايش معه، وبالتالي، فإن وقف إطلاق النار في لبنان إن هو إلا نهاية معركة. أما الصراع فمستمر حتى زوال أحد طرفيه، وهذا هو التفسير اللغوي السليم لمصطلح صراع. نحن العرب متجذرون في أرضنا منذ آلاف السنين، والزوال حتمًا سوف يكون مصير الكيان الطارئ في التاريخ وعلى الجغرافيا، المزروع في فلسطين من قِبَل بريطانيا سنة 1948.
ولقد أعقب وقف إطلاق النار في لبنان ديناميكية نشطة، باتجاه حصول ما يماثله في غزة. حتى الرئيس الأميركي، المتبقي له شهر ونصف الشهر تقريبًا في البيت الأبيض، والمجاهر بصهيونيته، أعلن عن بدء جهود بهذا الخصوص مع بعض دول المنطقة. وقد بدأوا التمهيد لذلك اعلاميًّا، ومنه على سبيل المثال لا الحصر، ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال أخيرًا على ألسنة مسؤولين اسرائيليين قولهم بأن القضاء على حركة حماس يتطلب وقتًا يستغرق سنوات، وكأنهم يقرون باستحالة ذلك، كما أقروا الشيء ذاته بخصوص المقاومة اللبنانية، على ما أنف بيانه.
المقاومة باتت الرقم الصعب في معادلة الصراع مع الكيان اللقيط، يستحيل تجاوزها. وهذه ظاهرة مبشرة، تفتح المزيد من أبواب الأمل بأننا في المسار الصحيح على طريق التحرير وأن آخر احتلال في التاريخ إلى زوال لا محالة، رغم الكلفة الباهظة. وهل من تحرير من دون كلفة بشرية ومادية، وخاصة مع عدو مثل الكيان الصهيوني يتلقى دعمًا مفتوحًا من الأنجلوساكسون وغربهم الأطلسي؟!
ونختم ببضعة سطورٍ نخص بها المهزومين من الداخل، الذين وجدوا في وقف إطلاق النار، فرصة للنيل من المقاومة اللبنانية والتشنيع عليها بما ليس فيها ومن منطلقات مذهبية مقيتة.
هذا النوع من الهزيمة أسوأ أنواعها بلا شك، ضحيته مُنهار نفسيًّا وفاقد للبوصلة. الكرامة تخلت عنه منذ زمن بعيد، فاستحال إلى كائن توجهه عُقد النقص المتراكمة بداخله تجاه العدو والشعور بالإنسحاق أمامه. وعليه، فإنه لشرف كبير للمقاومة أن تأتي مذمتها من أناسٍ على هذه الشاكلة وبهذه المواصفات. بالمناسبة، هؤلاء لا يخلو منهم مجتمع بهذا القدر أو ذاك.