مشروع سعادة النهضوي – الحلقة الخامسة – بناء الدولة القومية الحديثة

خامساً، بناء الدولة القومية الحديثة:

سعى أنطون سعاده إلى تأسيس دولة حديثة لا تقوم على الدين، بل تعتمد على مبدأين متجانسين: الوحدة القومية والديمقراطية. فالقومية الحقيقية، في نظر سعاده، لا يمكن أن تتحقق من دون ديمقراطية، والديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن توجد من دون قومية. الدولة القومية الديمقراطية تعبر عن وحدة الشعب وتماسكه، وتقوم على حكم الشعب لنفسه، حيث تصبح الديمقراطية تجسيداً سياسياً لوحدة الأمة. وقد اختصر سعاده هذا المفهوم بقوله: «الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً.»[1]

يهدف مشروع سعاده النهضوي إلى بناء دولة تكون «مؤسسة الشعب الكبرى»، حيث يشترك كل فرد من أفراد الشعب في عضويتها ويتحمل مسؤولية مصيرها وتطورها. إن جوهر الدولة القومية الديمقراطية أنها دولة الشعب الواحد، بكل أجياله، وهي ليست دولة الإقطاع السياسي أو الديني، ولا دولة المافيات المرتبطة بالإرادات الأجنبية. إنها دولة تعبر عن إرادة الشعب، وتحمي مصالحه المادية والنفسية، وتضع الأمة قبل أي مصلحة فردية أو طائفية.

في الدولة القومية، الشعب هو مصدر السيادة والسلطات. الدولة وُجدت لخدمة الشعب، وليس العكس؛ فهي أداة تعبر عن إرادة الأمة، وتدير شؤونها، وترعى مصالحها الحيوية. لذلك، لا يمكن أن تكون هناك دولة بلا أمة، ولا يمكن أن تتحقق السيادة والاستقلال بلا دولة قوية تكون أداة في خدمة الشعب، تنظم علاقاته وتحقق مصالحه المشتركة.

من أسس المشروع النهضوي لسعاده الفصل بين الدين والدولة. الدولة القومية تؤمن بالتسامح والأخوة القومية، وترفض أن تتحول الأديان إلى أحزاب متصارعة داخل المجتمع. كما قال سعاده: «اقتتالَنا على السماءِ أفقدَنا الأرض.»[2] ولهذا، ترفض الدولة القومية أن يكون رجال الدين سياسيين أو اقتصاديين، وتؤكد أن دورهم يجب أن يظل في إطار الروحيات الدينية التي يحتاجها الشعب لحياة السماء.[3] وتعمل الدولة على ضمان وحدة المصالح والحقوق، التي تتولد عنها وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية.

وتلتزم الدولة القومية الاجتماعية باحترام الأديان وقيمها الأخلاقية دون التدخل في أفكارها اللاهوتية، لكنها تمنع رجال الدين من استغلال سلطتهم الدينية لتحقيق مصالح طائفية. لذلك، ترفض تدخل رجال الدين في شؤون السياسة والقضاء، وتدعو إلى وحدة الشرع التي تضمن المساواة أمام القانون المدني، بحيث يكون جميع أعضاء الدولة متساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز.

كما تعتمد الدولة القومية الاجتماعية على التعاون والانفتاح، وترفض الحواجز الاجتماعية والحقوقية التي تفصل بين أبناء المجتمع الواحد. هذه الحواجز تعرقل الوحدة الاجتماعية وتمنع التطور. ولهذا، تضع ضمن مشروعها النهضوي إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب لتعزيز الوحدة الروحية والأخوة القومية، وضمان المساواة بين جميع المواطنين.

على هذه الأسس، يتأسس مشروع سعاده النهضوي لبناء دولة قومية حديثة تتجاوز الانقسامات وتؤسس لوحدة شعبية حقيقية، تضمن العدالة والسيادة والاستقرار لجميع أفراد المجتمع، مما يعزز تقدم الأمة وازدهارها.

سادساً، التغيير الاجتماعي والاقتصادي:

يرى أنطون سعاده أن النهضة لا تقتصر على الجانب السياسي أو الفكري فحسب، بل يجب أن تتضمن إصلاحات شاملة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي لضمان العدالة والاستقرار. إن الحاجة إلى الإصلاح تعد ضرورة حيوية تمس كافة جوانب حياتنا القومية، ولا يمكن تجاهلها. فإذا لم نتخذ خطوات جادة للقضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين، وإجراء إصلاحات جذرية تؤدي إلى اجتثاث الطائفية وإزالة أسباب التفرقة والتخلف، كيف يمكننا الخروج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهنا؟

بدون الإصلاح، سنبقى عاجزين عن مواجهة الفقر والحرمان والاستغلال، والحد من هجرة الشباب والتطرف الطائفي. كما أن بناء مجتمع قوي ومتماسك يتطلب قيام دولة مدنية حديثة بمؤسسات صالحة، قادرة على مواجهة الإرهاب والطمع الأجنبي في مواردنا الطبيعية، والحفاظ على هويتنا القومية. ومن دون جيش قوي ومقاومة شجاعة، كيف يمكن تحرير الأجزاء المحتلة من وطننا والتصدي لعدونا الذي لا يتوقف عن تهديد أمننا؟

من هنا، فإن المصلحة الوطنية تتطلب مراجعة أوضاعنا الاجتماعية والمبادرة إلى إصلاح المجتمع وبنائه على أسس الوعي القومي الصحيح، الذي يعزز دولة المواطنة ويوحّد المجتمع ويبعث فيه القيم النبيلة وروح التعاون. الإصلاح الفعلي يجب أن يكون عميقاً وحقيقياً، لا يستند إلى الكذب أو الخداع، بل ينبع من إرادة واعية، وتفكير عملي مدروس، يسعى لتنقية الحياة القومية من الشوائب النفسية والصدأ الفكري لتعود الصحة والعافية إلى نفوس المجتمع.

من الضروري أن نسعى لتكوين عقل جماعيّ يدرك هويته القومية الحضارية، يعتز بها ويسعى لإزالة الحواجز التي تعرقل دورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية الواحدة، وتكرّس التفرقة التي غرسها الاستعمار بيننا. إن تعزيز ثقافة الوحدة والدفاع عن الهوية الثقافية والاجتماعية هو الطريق إلى التحصين الوطني.

الإصلاح الحقيقي يبدأ ببناء النفوس من جديد، وتوجيهها نحو الأمة وقضيتها العادلة، وتحريرها من قيود الخنوع والذل، وتسليحها بقيم الحياة الكفاحية والوعي القومي الصحيح. فالأفراد المتحررون بالعلم والوعي والمناقب السامية، وحدهم القادرون على بناء مستقبل مزدهر وتحقيق النصر.

لقد شكلت حركة سعاده الإصلاحية انقلاباً فكرياً في تاريخ الأمة، لأنها أتت بنظرة جديدة للحياة والكون والفن، غايتها تأسيس حياة قومية جديدة تحوّل مجتمعنا المفكك والمتعدد التناقضات إلى مجتمع موحّد ذو نفسية جديدة وهوية واضحة وقضية مستقلة. إن هذا التحول يعزز قيم المساواة في الوطن والانصهار في قومية جامعة، تحقق لأبناء الأمة الاشتراك في وحدة الحياة والمصالح والمصير المشترك.

ويؤكد سعاده أن «المبادئ القومية الاجتماعية هي السبيل الوحيد لإنقاذ الأمة»[4]، لأنها تقدم نموذجاً للإصلاح يمكن أن يُعمم ليشمل المجتمع بأسره، بحيث يتحوّل الشعب إلى قوة واعية قادرة على النهوض بالأمة وقيادتها إلى العز والرقي.

في رؤيته، الاقتصاد هو أحد الركائز الأساسية لنهضة الأمة، حيث دعا إلى اعتماد نظام اقتصادي قومي يوفر الاستقرار والطمأنينة والارتقاء وزيادة الخير. لذلك، شدَّدَ سعاده على ضرورة تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، والعمل من أجل تحقيق عدالة اجتماعية ومساواة بين جميع المواطنين، مع التوزيع العادل للثروات على قاعدة المشاركة الفعلية في الإنتاج. هذا التوجه يعكس حرصه على بناء مجتمع قائم على إنتاجية مبدعة تساهم في رفاهية الأمة وازدهارها.

من خلال النظام الاقتصادي الذي اقترحه، دعا سعاده إلى التحرر من الهيمنة الاقتصادية الخارجية، معتبراً أن الاستقلال الاقتصادي هو مفتاح السيادة الحقيقية للأمة وضمان لاستمرارية نهضتها. ورأى سعاده أن السيادة لا تتحقق فقط من خلال التحرر السياسي، بل أيضاً من خلال التحكم في مواردنا الاقتصادية واستثمارها لتحقيق الرفاه الاجتماعي. واعتبر ان الـحركة القومية الاجتماعية هي «حركة الشعب ومصالح الشعب… إنها حركة الـمواهب القومية الاجتماعية في خدمة الأمة وحركة موارد الأمة في النظام الـجديد الذي يجعل هذه الـموارد موارد خير وصحة وفلاح ونعيم للمجموع القومي!»[5] في هذا السياق، أكد سعاده على أهمية العمل الجماعي لتحقيق نهضة صناعية وزراعية واقتصادية تفيض بالخير على الأمة بأسرها. ويقول في هذا السياق: «يجب أن يعمل الجميع لنهضة صناعية زراعية اقتصادية قومية تفيض الخير على هذه الأمة والشعب.»[6]

علاوة على ذلك، يرى سعاده أن الدولة القومية الاجتماعية تأتي بنظام اقتصادي جديد، قاعدته وحدة المجتمع المدني، وغايته خير الأمة ورفاهيتها. هذا النظام الاقتصادي القومي يقوم على أساس العمل والإنتاج، حيث يتحول المجتمع بأسره إلى أمة العاملين المبدعين المنتجين في كافة المجالات: علماً، فكراً، صناعةً، وزراعةً. ويعتبر سعاده أن زيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل هما شرطان أساسيان لتحقيق الرفاهية للشعب، فلا يمكن التفكير في ازدهار الأمة دون تحقيق اقتصاد منتج ومستدام.

ويقول النظام الاقتصادي القومي الجديد أيضاً بضرورة إلغاء الإقطاع، لأنه يرى في الإقطاع نظاماً ظالماً يفقر الفلاحين ويضعهم تحت سيطرة الإقطاعيين المستبدين. إلغاء الإقطاع ليس فقط لإزالة الظلم عن الفلاحين، ولكن أيضاً لتحرير الإقطاعيين أنفسهم من نفسية الاستعلاء والاستبداد، ولإحلال روح الأخوة القومية والتعاون الاجتماعي بين الجميع. هذا التحوّل يهدف إلى خلق مجتمع أكثر عدالة، حيث تسود روح التآخي والتعاون، بعيداً عن الفروقات الطبقية الظالمة.

يركز سعاده أيضاً على إنصاف العمل وتوزيع الإنتاج توزيعاً عادلاً يضمن حقوق العمال الذين يساهمون في بناء ثروة الأمة وعزتها. ويعتبر أن التوزيع العادل للثروات هو جزء من العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها، بحيث يكون لكل فرد في الأمة نصيب من خيراتها على أساس ما يقدمه من عمل وإنتاج. إن هذا النظام الاقتصادي، الذي أساسه العدالة الاجتماعية والاقتصادية، يهدف إلى تحقيق رفاهية شاملة لكل أفراد المجتمع، وهو جزء لا يتجزأ من مشروع النهضة القومية الاجتماعية. لذلك يقول سعاده: «نحن لا نقول بحرب النقابات ولا بحرب الطبقات لأننا نقول بوحدة اجتماعية قومية. نقول بالحق والعدل الذي يجعل مجموع الشعب في حالة خير وبحبوحة فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم.»[7]


[1] أنطون سعاده، نشوء الأمم، ص 130.

[2] أنطون سعاده، المجلد الثامن 1948 – 1949، اقتتالنا على السماء افقدنا الأرض.

[3] أنطون سعاده، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في الكورة (صيف 1937).

[4] أنطون سعاده، مختارات في المسألة اللبنانية – 2- الإنعزالية أفلست 1947 – 1949، ص 201.

[5] أنطون سعاده، المجلد الثامن 1948 –1949، «لا مفر من النجاح»، الجيل الجديد، بيروت، العدد 10، 17/04/1949.

[6] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 150.

[7] المرجع ذاته، ص 152.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *